شبام حضرموت .. ناطحات السحاب ومهد الحضارة في قلب الصحراء
في عمق الصحراء اليمنية، وتحديدًا في قلب وادي حضرموت، تنتصب مدينة شبام كتحفة نادرة من الطين، تشهد على عراقة التاريخ وعبقرية الإنسان في مواجهة الطبيعة، لا تُعد شبام مجرد مدينة أثرية أو وجهة سياحية، بل هي أيقونة حضارية وثقافية فريدة، ينعكس فيها تمازج العمارة بالتراث، والدين بالعلم، والبيئة بالحياة اليومية.
يمانيون / تقرير/ طارق الحمامي
تعتبر مدينة شبام تحفة حضارية تشع في قلب الصحراء ، لما تتميز به من مبانٍ طينية شاهقة تعود إلى قرون مضت، سبقت بها مفاهيم العمارة الرأسية الحديثة، إلا أن أهمية شبام تتجاوز طابعها المعماري، فهي مركز إشعاع ثقافي وحضاري أثّر في محيطها المحلي والإقليمي وحتى العالمي، عبر التاريخ القديم والحديث.
يتناول هذا التقرير الصحفي لمحة تاريخية عن المدينة، ومعالمها الأثرية الفريدة، والحياة الاقتصادية والاجتماعية داخلها، بما في ذلك الحرف التقليدية والأسواق والعادات والتقاليد. كما نُسلط الضوء على تأثيرها الثقافي العميق، وكيف أسهمت شبام في نشر القيم العلمية والدينية، وفي تشكيل الهوية الحضرميّة داخل اليمن وخارجه، ويعرض التقرير أيضًا أبرز المواسم والمناسبات التي تعكس روح المجتمع ، بالإضافة إلى التحديات المعاصرة التي تواجه المدينة، خصوصًا في ظل التغيرات المناخية والنزوح السكاني.
تأتي أهمية هذا التقرير من كونه وثيقة تعريفية وتوعوية، تُسهم في إبراز قيمة شبام التاريخية والثقافية، وتُذكّر بأهمية صون هذا الإرث الإنساني النادر من التهديدات التي تحيط به.
خلفية تاريخية
يعود تأسيس مدينة شبام إلى ما قبل القرن الثالث الميلادي، لكنها ازدهرت بشكل لافت خلال القرنين الخامس عشر والسادس عشر، وقد لعب موقعها الإستراتيجي بين طريق التجارة القديم دورًا كبيرًا في نموها وثرائها، إذ كانت ملتقى القوافل القادمة من حضرموت إلى مكة والهند وشرق إفريقيا.
سُجلت شبام على قائمة التراث العالمي لليونسكو عام 1982، وذلك لما تمثله من نموذج فريد للتخطيط المدني والمعماري الإسلامي في بيئة صحراوية قاسية.
العمارة والمعالم الأثرية
أبرز ما يميز شبام هو مبانيها الطينية العالية، التي يتراوح ارتفاعها بين 5 إلى 11 طابقًا، وتُعد أول مدينة في التاريخ تبنت نظام “العمارة الرأسية”. هذه البنايات مبنية من اللبن (الطوب الطيني المجفف بالشمس) وتتميز بتصميم شبكي من الأزقة الضيقة، ما يساعد في تلطيف درجات الحرارة المرتفعة.
أهم المعالم الأثرية:
السور القديم: يحيط بالمدينة القديمة لحمايتها من السيول والغزاة.
القصور والبيوت الطينية: مثل بيت “بن يحيى” و”بن عطاس”.
الجامع الكبير: أحد أقدم مساجد المدينة ويعود إلى القرن العاشر الهجري.
المتحف الحضرمي: يعرض أدوات تراثية ووثائق تاريخية من حضرموت القديمة.
الحرف والصناعات التقليدية
يمتاز سكان شبام بالحرف اليدوية التي توارثوها عبر الأجيال، مثل:
صناعة الطوب الطيني (اللبن): المادة الرئيسية في البناء.
النجارة والنحت على الخشب: خاصة في الأبواب والنوافذ ذات الزخارف الإسلامية.
النسيج وصناعة البسط من سعف النخيل.
الزراعة وتربية المواشي: خاصة زراعة النخيل والحبوب.
الأسواق والحياة الاقتصادية
تضم المدينة سوقًا تقليديًا نشطًا يقدم مزيجًا من المنتجات الزراعية، التوابل، الملابس التقليدية، والأدوات اليدوية. ويتميز السوق بالحيوية، خاصة في يوم السوق الأسبوعي، الذي يشهد تدفق الزوار من مختلف قرى حضرموت.
العادات والتقاليد
تشكل العادات في شبام جزءًا لا يتجزأ من نسيج الحياة اليومية، ومنها:
المجالس والمقايل: حيث يجتمع الرجال لتناول القهوة وتبادل الأحاديث.
الزي الحضرمي التقليدي: مثل المعوز والرداء الأبيض.
نظام “العزوة”: وهو التعاون بين أبناء الحي أو الأسرة الكبيرة في المناسبات.
المناسبات والمواسم الشهيرة
مهرجان شبام الثقافي: يُقام سنويًا ويشمل عروضًا تراثية، رقصات شعبية، ومعارض حرفية.
الأعياد الإسلامية: وخاصة عيد الأضحى الذي تتجلى فيه مظاهر الكرم والتكافل الاجتماعي.
موسم نخل المدينة (موسم الحصاد): حيث تُقام فعاليات احتفالية تقليدية احتفاءً بجني التمور.
تأثير مدينة شبام الثقافي
رغم صغر حجمها الجغرافي، امتد تأثير شبام الثقافي إلى مختلف مناطق حضرموت واليمن وحتى خارج الحدود، وخصوصًا إلى بلدان المهجر التي هاجر إليها الحضرميون، مثل إندونيسيا، والهند، وشرق إفريقيا. وقد ساهمت المدينة في ترسيخ ملامح الثقافة الحضرميّة التي تميزت بالوسطية، والعلم، والانفتاح الحضاري.
مركز إشعاع علمي وديني ، على مر العصور، كانت شبام معقلًا لعدد من العلماء والفقهاء، خاصة في المذهب الشافعي. فقد احتضنت مدارس فقهية وزوايا علمية، وكان علماؤها يُستشارون في القضايا الدينية والاجتماعية. ومن أشهر أعلامها الشيخ الفقيه “أحمد بن حسن العطاس”، الذي كان له دور في نشر العلم والدعوة في حضرموت وخارجها.
الإبداع المعماري وتأثيره الفني ، تُعد شبام مصدر إلهام للمهندسين والمعماريين حول العالم. لقد أثرت طريقتها في البناء الطيني العمودي على مفاهيم العمارة البيئية والعمودية في البيئات الصحراوية. هذا الأسلوب المعماري جذب اهتمام منظمات دولية، وألهم دراسات وأبحاثًا في مجالات الاستدامة، ما أكسب شبام شهرة أكاديمية وثقافية واسعة.
الفلكلور والفن الشعبي ، تشتهر المدينة بغناها في الفنون الشفوية مثل الشعر الشعبي، والزوامل، والحكايات الشعبية التي تُروى في المجالس. كما أن الرقصات التقليدية مثل رقصة “الهبيش” و”الشرح الحضرمي” تُعبّر عن الفخر والانتماء.
التأثير في ثقافة المغتربين ، نتيجة لهجرة عدد كبير من أبناء حضرموت، كان لشبام وأهلها تأثير كبير على المجتمعات التي استقروا فيها، لا سيما في إندونيسيا، حيث ساهموا في نشر اللغة العربية، وتأسيس المدارس الإسلامية، ونقل العادات الحضرميّة كجزء من النسيج الثقافي المحلي.
خاتمة
مدينة شبام ليست مجرد مبانٍ شاهقة من الطين، بل هي حكاية من عبق التاريخ، وتعبير حي عن قدرة الإنسان على بناء حضارة متكاملة في أحلك الظروف، الحفاظ على هذه المدينة هو مسؤولية إنسانية وثقافية تتجاوز حدود اليمن، لأنها تمثل إرثًا عالميًا فريدًا.