Herelllllan
herelllllan2

جفّت الأنهار وبارت الأرض.. كيف ضرب الجفاف أوروبا ؟

يمانيون – متابعات
القارة الخضراء تعاني جفافاً لم تشهده منذ قرون. حقول أوروبا وسكانها يعانون من العطش. وإذا كان العالم بأسره يعاني من الجفاف وغياب الأمطار ودرجات الحرارة الخانقة، فالبعض معتاد ويتكيف، لكن بعض مناطق الكوكب تواجه واقعاً جديداً مفزعاً.

نعم، لم يعد خافياً على أحد أن التغير المناخي حقيقة وليس خيالاً علمياً، لكن أن يغيب المطر عاماً أو عامين، أو أن يتساقط بغزارة أقل من المعتاد أمرٌ، وما يحدث لأناس عاشوا حياتهم كلها معتادين على الخضرة في كل مكان والبرد هو العنوان أمرٌ آخر مختلف تماماً، ومفزع لأقصى درجة.

أن تصل درجة الحرارة في شهر يوليو/تموز إلى 40 درجة مئوية، فهذا قد يكون رحمة لمن يعيشون في الشرق الأوسط عموماً، وفي دول الخليج العربي خصوصاً، لكن درجة الحرارة نفسها في أوروبا تمثل حدثاً تاريخياً بنتائج كارثية، تهدد حياة البشر وأرزاقهم، وربما وجودهم ذاته.

هذا التوصيف ليس من قبيل المبالغة، فالواقع أشد قسوة، وللقصة بداية ربما من المستحيل أن نمسك بطرفها بدقة، لكن الخوف كل الخوف أن نكون بصدد فصل النهاية بالفعل.

*درجات حرارة مرتفعة بشكل قياسي
سجلت أوروبا ارتفاعات قياسية في درجات الحرارة هذا الصيف (2022)؛ إذ سجلت إسبانيا مطلع يونيو/حزيران أعلى درجة حرارة تشهدها البلاد في أوائل فصل الصيف منذ عشرات السنين، تراوحت بين 40 و42 درجة مئوية في سرقسطة (شمال شرق) ونافارا ولاريوخا (شمال)، بحسب هيئة الأرصاد الجوية الإسبانية.

وفي فرنسا، تجاوزت درجات الحرارة 40 درجة منذ منتصف يونيو/حزيران الماضي، مسجلة موجة الحر الأعلى على الإطلاق في البلاد منذ عام 1947. ويوم 17 يونيو/حزيران، ارتفعت درجة الحرارة على شواطئ البحر المتوسط في فرنسا من 22 درجة مئوية إلى 37 درجة خلال 3 ساعات فقط، في ظاهرة مناخية نادرة تُعرف باسم “الانفجار الحراري”، بحسب تقرير لوكالة Bloomberg الأمريكية.

وفي البرتغال، قالت وكالة الأرصاد البرتغالية إن مايو/أيار الماضي كان الأكثر سخونة خلال 92 عاماً. والأمر نفسه شهدته إيطاليا والتشيك وبريطانيا وأغلب دول القارة العجوز.

كانت تلك هي الموجة الأولى من الحر الخانق هذا الصيف، وظن الكثيرون أنه بنهايتها، ستعود الأمور إلى طبيعتها، وتصبح متوسطات الحرارة في العشرينيات على أقصى تقدير، لكن ما كشف عنه طقس يوليو/تموز وأغسطس/آب كان مرعباً، فما شهدته أوروبا خلال مايو/أيار ويونيو/حزيران لم يكن سوى الموجة الأولى من الحرارة المرتفعة لدرجة خانقة.

سجلت بريطانيا، خلال يوليو/تموز درجات حرارة قياسية تخطت 40 درجة مئوية، والأمر نفسه شهدته إيطاليا وفرنسا وإسبانيا والبرتغال وألمانيا وباقي دول أوروبا، التي كانت عادة الملجأ للقادرين من سكان نصف الكرة الجنوبي للسياحة والاستمتاع بالأجواء المعتدلة الرطبة في ذلك الوقت من العام.

موجات الحر القائظ التي ضربت أوروبا هذا الصيف، الذي لا يزال مستمراً، بلغت 4 موجات متتالية، بدأت منذ مايو/أيار، أي إن هذا الحر غير المعتاد بالمرة بالنسبة للأوروبيين مستمر على مدار 4 أشهر متصلة، للمرة الأولى منذ أكثر من 5 قرون، بحسب خبراء الأرصاد الجوية.

لندن، المعروفة عالمياً باسم “مدينة الضباب”، أصبح طقسها قريباً من طقس الصيف في أغلب مدن نصف الكرة الجنوبي، ويا له من انقلاب قد يعجز الكثيرون عن تخيله، فما بالنا بمن يعيشون فيه ويكتوون بناره. والأمر لا يختلف كثيراً في العواصم والمدن الأوروبية الأخرى، وصولاً إلى الدول الاسكندنافية ذاتها، حيث كان إشراق الشمس في حد ذاته حدثاً يتطلعون إليه ويخرجون لاستقباله كونه نادر الحدوث على مدار العام.

*ما المشكلة إذا ارتفعت درجات الحرارة؟
من البديهي، بالنسبة لأغلب سكان الشرق الأوسط، أن يتبادر السؤال إلى أذهانهم، ففي نهاية المطاف يعيش سكان الخليج والشام وشمال إفريقيا في ظل درجات حرارة مرتفعة للغاية خلال الصيف، تصل أحياناً إلى 50 درجة مئوية، والأمر معتاد ويتكيف معه الناس.

وفي إفريقيا وآسيا وأمريكا الجنوبية وأستراليا، هذه طبيعة فصل الصيف، حيث درجات الحرارة المرتفعة للغاية. وأوروبا قارة متقدمة للغاية وغنية أيضاً، أي أنها تمتلك الأدوات الكفيلة بالتخفيف من حدة درجات العالية، سواء من خلال المكيفات أو تقنيات استدرار الأمطار، على سبيل المثال. هكذا قد يفكر الكثيرون.

لكن القصة أكثر عمقاً وخطراً بكثير. فالحرارة المرتفعة بشكل مستمر لها أضرار من الصعب تصورها، أخطرها على الإطلاق اسمه “الجفاف” يقول عز وجل في القرآن الكريم :(وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْء) صدق الله العظيم والجفاف يعني ببساطة اختفاء الماء، أي اختفاء الحياة ذاتها.

وبالنسبة لقارة تحيط بها المياه من 3 جهات ورياح خليجية دائمة الهبوب من الجهة الرابعة، تصبح الأجواء الرطبة الباردة والمطيرة هي الأصل. وفي هذا السياق، تعتبر أوروبا القارة الوحيدة تقريباً التي لا تعرف “الأجواء الصحراوية” من الأساس. فالقارة العجوز لا توجد بها صحارى شاسعة، بل يقتصر وجود الصحراء بها على مناطق صغيرة “جرداء” يغلب عليها اللون الأصفر وليس الأخضر.

وعلى مستوى العالم، توجد 23 صحراء، لا توجد منها واحدة على الأراضي الأوروبية. لكن توجد بعض المناطق التي تشبه الصحراء، بالأساس من حيث غلبة اللون الأصفر، منها واحدة في منطقة خيرسون، جنوب أوكرانيا. وهذا في حد ذاته أمر يثير الدهشة؛ نظراً لأن أوكرانيا تُعرف بأنها “سلة غذاء” أوروبا، وتشتهر بمزارعها الشاسعة. تلك المنطقة في خيرسون لم تكن تختلف عن باقي أوكرانيا، إلا أنه في أزمان غابرة، استهلك الرعاة عشبها الأخضر كمراعٍ لماشيتهم، فحلت الرمال الصفراء محل الأعشاب الخضراء.

لكن المنطقة الوحيدة في أوروبا الأكثر قرباً من وصف الصحراء، فتقع في منطقة ألميريا الإسبانية، وتشهد الحد الأدنى من معدل سقوط الأمطار سنوياً في أوروبا، إذ يبلغ 200 ملم، بحسب تقرير لموقع realeconomics.

وفي هذا السياق، تشير موجة الحر القائظ التي تعاني منها أوروبا هذا الصيف إلى أن القارة الخضراء على وشك أن تتحول إلى حاضنة للصحارى شكلاً ومضموناً، أي ليس فقط مجرد مناطق صغيرة يكسوها اللون الأصفر، بل مناطق كبيرة تعاني من ندرة المياه، فتختفي المروج الخضراء لتحل محلها الأراضي الجدباء المقفرة.

فتسجيل القارة العجوز درجات حرارة قياسية أدى إلى تبخر مياه أنهارها. إذ إن نهر الراين، والذي كان يعتبر أحد أهم أعمدة الاقتصاد في ألمانيا وهولندا وسويسرا لعدة قرون، يعاني بالفعل من الجفاف الشديد، ما يعيق حركة نقل البضائع من خلاله حالياً، هذا بخلاف الخسائر الزراعية الفادحة بطبيعة الحال.

ارتفاع درجة حرارة مياه نهري “رون” و”غارون” في فرنسا يتسبب في أمور خطيرة، تتمثل في صعوبة تبريد المفاعلات النووية بشكل فعال. كما انخفض منسوب المياه بنهر بو أطول أنهار إيطاليا، والذي يتدفق عبر قلب إيطاليا الزراعى والصناعي لأدنى مستوى خلال نحو 70 عاماً، مسبباً خسائر بمليارات اليوروهات للمزارعين الذين يعتمدون عليه في ري حقول الأرز.

إيطاليا، التي تعاني من أسوأ موجة جفاف منذ عقود، تشهد أيضاً انخفاضاً في منسوب بحيرة “جاردا” أكبر بحيرة في البلاد، التي وصلت إلى أدنى مستوى لها على الإطلاق، كما يعاني نهر الدانوب، الذي يشق طريقه عبر مساحة 1800 ميل بين وسط أوروبا والبحر الأسود، من الجفاف هو الآخر، ما يعيق حركة تجارة الحبوب وغيرها.

*هل أوروبا خارج السياق العالمي؟
العالم كله يعاني من درجات الحرارة المرتفعة والجفاف الناجم عنها. هذه حقيقة لم يعد أحد يجادل فيها. فقارة أمريكا الشمالية، حيث كندا والولايات المتحدة والمكسيك، تتعرض لموجات حرارة مرتفعة غير مسبوقة أيضاً. ونتج عنها خسائر فادحة في الأرواح، إضافة إلى موجة جفاف لم تشهد لها القارة مثيلاً ربما منذ اكتشافها.

فعلى سبيل المثال، يعتبر نهر كولورادو، الذي ينبع من جبال روكي ويعبر ولايات كولورادو ويوتا وأريزونا ونيفادا وكاليفورنيا وصولاً إلى شمال المكسيك حيث يصبّ في البحر، ويبلغ طوله أكثر 2,330 كلم، وتغذّيه تساقطات الثلوج التي تتكدّس في المرتفعات شتاءً قبل أن تذوب في الأشهر الحارة.

هذا النهر شهد مؤخراً، للمرة الأولى في التاريخ المعاصر، تراجعاً حاداً في مياهه، اضطرت معها الحكومة الفيدرالية الأمريكية لاتخاذ قرارات تتعلق بتوزيع حصص المياه للولايات التي يمر عبرها، وهو ما أغضب البعض.

*توفر بحيرة ميد المياه لما يقرب من 25 مليون شخص

إذ بات ينبغي لبعض الولايات الأمريكية وللمكسيك أيضاً الحدّ من استهلاك المياه لتفادي تداعيات “كارثية” على نهر كولورادو، في وقت تعاني المنطقة من جفاف لا سابق له، وفق ما أعلنت الحكومة الفيدرالية. ويشهد الغرب الأمريكي سنته الثالثة والعشرين من الجفاف. وهذه الموجة هي الأكثر شدة منذ أكثر من ألف عام.

ففي عام 2023، ستنخفض نسبة المياه الممنوحة لأريزونا بـ21% وبـ8% في نيفادا وبـ7% في دولة المكسيك التي يصبّ فيها النهر، أما كاليفورنيا، الولاية التي تستخدم أكبر نسبة من مياه النهر وتضمّ أكبر عدد من السكان بين الولايات الأمريكية، فلن تتأثر بهذه القيود العام المقبل.

جاءت تلك القرارات بعد تحذيرات أطلقت مراراً وتكراراً دون أن تنجح الولايات التي تعوّل على هذا النهر في تخفيف استخدام المياه على نحو كافٍ.

ومن أمريكا الشمالية إلى الصين، نجد أن مصانع في جنوب غرب الصين توقفت عن العمل، خلال أغسطس/آب 2022، بعد انخفاض الخزانات المستخدمة لتوليد الطاقة الكهرومائية، في ظل الجفاف المتفاقم بالبلاد.

فقد أغلقت الشركات في مقاطعة سيشوان، ومنها شركات تصنيع الألواح الشمسية والأسمنت واليوريا، أو خفضت الإنتاج بعد أن طلب منها ترشيد الطاقة لمدة تصل إلى 5 أيام. وانخفضت مستويات الخزانات وزيادة الطلب على الطاقة لتكييف الهواء في ظل ارتفاع درجات الحرارة، وقال مرسوم صادر من حكومة المقاطعة: “اتركوا الطاقة للمواطنين”. وقالت وسائل الإعلام الرسمية الصينية إن موجة الحر في الصين استمرت حتى الآن 64 يوماً، ما يجعلها الأطول منذ عام 1961.

وفي المغرب، على سبيل المثال بشأن ما يعاني منه الشرق الأوسط، تزداد المخاوف من تداعيات الجفاف، حيث لا يتعدى مخزون السدود المغربية 27% من طاقتها. ويعتبر وضع التزود بالمياه حالياً الأسوأ منذ قرابة 40 عاماً. ويصنف المغرب تحت خط ندرة المياه الذي تحدده المنظمة العالمية للصحة بـ1700 متر مكعب للفرد سنوياً، فالحصة في المغرب لا تتجاوز 600 متر مكعب فقط، أي نحو الثلث. وفي بلاد الرافدين، يعاني نهرا دجلة والفرات من تراجع حاد في منسوب المياه، وصل إلى نضوبها في بعض المناطق. باختصار، العالم كله يعاني، وإن بدرجات متفاوتة، من الجفاف وندرة المياه العذبة، سواء تلك الجارية في الأنهار أو المياه الجوفية.

*التغير المناخي.. الكارثة التي تهدد البشرية
منذ أن أصبحت صور الفيضانات والحرائق تتصدر عناوين الصحف حول العالم، وبصفة خاصة العام الماضي 2021، أصبح التغير المناخي مصطلحاً حاضراً في مناقشات البشر على كافة المستويات، بعد أن ظل لعقود طويلة محصوراً في دوائر خبراء ونشطاء البيئة.

وتسبب سيل الكوارث المناخية في أنحاء العالم، من الفيضانات في ألمانيا والصين إلى الحرائق الهائلة في أوروبا وأمريكا الشمالية، مروراً بموجات القيظ في كندا، في تسريع قيام العلماء بالكشف عن التقييمات الجديدة والتوقعات المرتبطة بارتفاع درجات الحرارة العالمية وارتفاع مستويات المحيطات وحتى اشتداد الظواهر المناخية القصوى.

وفي يوليو/تموز من العام الماضي، أكدت مديرة الشؤون المناخية في الأمم المتحدة باتريشا إسبينوزا خلال افتتاح دورة الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ في نهاية تموز/يوليو الماضي على الحاجة إلى التحرك بسرعة. وقالت: “الحقيقة هي أننا لسنا على المسار الصحيح لتحقيق هدف اتفاق باريس للمناخ المتمثل في حصر الاحترار بـ1,5 درجة مئوية بحلول نهاية القرن. في الواقع، نحن على الطريق المعاكس وقد يبلغ الاحترار عتبة 3 درجات مئوية. يجب علينا تغيير المسار بشكل عاجل قبل فوات الأوان. أقول هذا لصناع القرار: العلم لا يسمح لنا برؤية العالم كما نرغب في أن يكون، إنه يظهر العالم كما هو. هذه ليست سياسة، إنها حقيقة”.

وحتى تكون الصورة الكبرى أقرب لنا جميعاً، فقد ارتفعت درجة حرارة كوكب الأرض نحو 1.2 درجة مئوية منذ بداية الثورة الصناعية وإنشاء المصانع. ويؤدي كل ارتفاع في درجة حرارة الكوكب بجزء واحد من الدرجة المئوية إلى ازدياد وتيرة الظواهر المناخية المتطرفة.

وفي عام 2015، توصلت الدول الكبرى إلى “اتفاقية باريس للمناخ” التي وضعت عتبة 1.5 درجة مئوية بنهاية القرن الجاري (القرن الحادي والعشرين) هدفاً ذا أولوية قصوى للعديد من الناشطين والقادة السياسيين. لكن الظواهر المناخية المتطرفة وارتفاع وتيرتها في السنوات الثلاث الأخيرة جعلت هناك حاجة مُلحة لإعادة النظر في التقديرات المتوقعة في هذا الشأن، خصوصاً أن ما تم الاتفاق عليه في باريس قبل 7 سنوات لم تلتزم به الدول الكبرى من الأصل، إلا في نطاق محدود، بل إن الولايات المتحدة انسحبت أصلاً من الاتفاقية خلال رئاسة دونالد ترامب (2016-2020).

ومصطلح التغير المناخي معنيّ بوصف التغييرات طويلة المدى في الأحوال الجوية لكوكب الأرض. وتتمثل هذه التغييرات في الارتفاع الشديد لدرجة الحرارة وهطول الأمطار بغزارة مسببة فيضانات قاتلة، ويحدث هذا التطرف في الطقس بصورة متسارعة، وربما في الأماكن نفسها، ما يؤدي إلى موجات طقس حار وعواصف، وارتفاع منسوب المياه، والنتيجة باختصار هي نقص الغذاء.

شعر قادة العالم بخطورة الموقف أخيراً، واجتمعوا في غلاسكو خلال نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، محاولين الاتفاق على تخفيض أسرع للانبعاثات الكربونية التي تسبب الاحتباس الحراري، ومن ثم ارتفاع حرارة الكوكب. لكن الانقسامات الكبرى على الساحة الدولية وتضارب المصالح بين القوى الكبرى جعلت الأمور أكثر صعوبة، رغم أن الصين وأمريكا اتفقتا في اللحظة الأخيرة، ربما تحت وطأة التداعيات الكارثية التي يعانيان منها بالفعل، على جعل قضية المناخ خارج نطاق حربهما الباردة.

فالأربعاء 10 نوفمبر/تشرين الثاني 2021، كشفت الولايات المتحدة والصين النقاب عن اتفاق لزيادة التعاون بينهما؛ لعلاج آثار التغير المناخي، بما يشمل خفض انبعاثات الميثان، والتخلص التدريجي من استهلاك الفحم، وحماية الغابات. وأعلن عن الاتفاق الإطاري كلٌّ من جون كيري المبعوث الأمريكي المعنيّ بملف المناخ، ونظيره الصيني تشي جين هوا، بعد أن كان رئيس مؤتمر الأمم المتحدة للمناخ (كوب 26) قد أقر بأن الالتزامات التي أعلنتها الدول حتى الآن في المحادثات بشأن المناخ لن تفعل الكثير لترويض ظاهرة الاحتباس الحراري، ودعاهم إلى العمل على توقيع اتفاق طموح خلال اليومين المتبقيَين من المحادثات.

ولم لا؟ فالصين هي الدولة الأولى عالمياً من حيث الانبعاثات الكربونية المسؤولة عن ظاهرة الاحتباس الحراري، تليها الولايات المتحدة في المرتبة الثانية. ويمثل البلدانِ معاً نحو 40% من إجمالي التلوث بالكربون الذي يؤدي إلى التغير المناخي وتوابعه الكارثية على الطقس حول العالم، ويليهما الاتحاد الأوروبي ثم الهند وروسيا.

ورغم الوعود المتكررة من جانب بكين وواشنطن، وغيرهما من الدول الكبرى، بالعمل على تخفيض تلك الانبعاثات الكربونية وغيرها مثل غاز الميثان، فإن تلك الدول الصناعية لا تلتزم بتطبيق تلك الوعود في نهاية المطاف، لأسباب متنوعة، أبرزها التنافس الاقتصادي والاعتماد على الوقود الأحفوري من نفط وغاز وفحم أيضاً، إلى جانب التعقيدات السياسية التي يخشاها قادة تلك الدول وأبرزها الصدام مع الشركات الكبرى.

* ماذا فعلت أوروبا بنفسها إذاً؟
منذ بدء روسيا اجتياحها لجارتها أوكرانيا في فبراير/شباط الماضي، وهو الهجوم الذي تصفه موسكو بأنه “عملية عسكرية خاصة”، بينما يصفه الغرب بأنه “غزو”، يمكن القول إن أوروبا أطلقت الرصاص ليس على قدمها فحسب، بل ربما على رأسها مباشرة.

والحديث هنا لا علاقة له بالحرب، التي كان يمكن تجنبها بإجماع الآراء، لكنه منصب على تداعياتها الكثيرة والمتشعبة، والتي يبدو أن أخطرها على الإطلاق مرتبط بالتغير المناخي وما تجنيه القارة العجوز اليوم من كوارث أبرزها الجفاف.

كانت أوروبا بشكل عام قد توقفت تماماً عن استخدام الفحم لتوليد الكهرباء، وأغلقت تلك المحطات ليتولى الغاز الطبيعي المهمة. وكان الغاز يصل إلى أوروبا عبر خطوط أنابيب متشعبة وممتدة، تنقله من منابعه في أعماق سيبيريا الروسية حتى ألمانيا وباقي دول القارة عبر الأراضي الأوكرانية بالأساس، من خلال خط أنابيب نوردستريم.

ولأن الغاز الروسي يصل إلى أوروبا بأسعار تنافسية أقل كثيراً من أسعاره العالمية، اتفقت برلين وموسكو على إنشاء خط أنابيب نوردستريم2، رغم معارضة الولايات المتحدة للمشروع من الأساس، لدرجة أن دونالد ترامب قرر نقل القوات الأمريكية المتمركزة في ألمانيا ضمن قوات حلف الناتو إلى دولة أوروبية أخرى، فيما يشبه القطيعة بين الحليفين. واكتمل مشروع نوردستريم2، لكن المستشارة أنجيلا ميركل كانت قد ودعت المشهد السياسي وخسر حزبها الانتخابات، للتشكل حكومة إشارة المرور برئاسة المستشار الاشتراكي أولاف شولتز وتتغير ألمانيا بشكل جذري.

سارعت ألمانيا بتعليق مشروع نوردستريم2، قبل حتى أن تندفع المدرعات الروسية داخل أوكرانيا، ثم توالت العقوبات الغربية، بقيادة أمريكا والاتحاد الأوروبي على موسكو، ليصبح الغاز الروسي السلاح الأقوى في يد الرئيس فلاديمير بوتين، وتبدأ القارة العجوز في البحث عن بدائل.

يمثل الغاز عصب الاقتصاد الألماني خصوصاً والأوروبي عموماً، وبالتالي فالأزمة عنيفة وتداعياتها الاقتصادية من الصعب تخيلها. وفي ظل شح البدائل وبعدها عن القارة العجوز؛ ما يعني تأخر وصولها من جهة وارتفاع الأسعار من جهة أخرى، هذا حال توفرها من الأساس، قررت دول كألمانيا إعادة تشغيل محطات الفحم مرة أخرى.

لكن يبدو أن الحسابات الخاصة وراء هذا القرار لم تأخذ في الحسبان ما قد تتسبب فيه العودة للفحم، وما يمثله من انبعاثات كربونية ضارة للغاية، من أضرار مدمرة خلال وقت قصير للغاية. فالتقديرات تشير إلى أن 15% فقط من مساحة القارة الأوروبية كان مصنفاً تحت وصف مناطق تعاني من “الجفاف الحاد” في يوليو/تموز الماضي، وصلت تلك النسبة إلى 47% في أغسطس/آب، مع توقعات بأن يصيب الجفاف الحاد ثلثي مساحة القارة قريباً.

قد تمثل هذه الأرقام مفاجأة ضخمة للكثيرين، خصوصا أن التغيرات المناخية تستغرق سنوات وربما عقوداً حتى تصبح أمراً واقعاً، لكن خبراء المناخ يرون أن الوتيرة التي باتت موجات الطقس المتطرف تضرب فيها أصبحت متسارعة أكثر مما تتوقع الأرصاد الجوية، رغم التقدم العلمي والتقني الهائل الذي وصل إليه العالم.

وفي هذا السياق، يمكن التوقف عند حقيقتين لافتتين تتعلقان بتوقعات الطقس. الحقيقة الأولى تتعلق ببريطانيا، فخلال صيف 2020، أصدرت هيئة الأرصاد هناك توقعاتها بشأن درجات الحرارة في البلاد خلال شهر يوليو/تموز عام 2050، وكانت تلك التوقعات على سبيل الافتراض بطبيعة الحال.

لكن المفاجأة تمثلت في أن النشرة الخاصة بالتوقعات المناخية للأسبوع الأخير من شهر يوليو/تموز 2022، جاءت متطابقة تماماً مع ما أظهرته التوقعات بشأن الأسبوع نفسه من عام 2050، وبخاصة تسجيل درجات حرارة مرتفعة بصورة قياسية، بحسب تقرير لشبكة CNN الأمريكية.

وكتبت هيئة الأرصاد البريطانية على صور توقعات الطقس لصيف 2050 عبارة “هذه ليست توقعات أرصاد حقيقية، بل توقعات افتراضية لصيف 2050″، لكن الصورة الخاصة بالأرصاد الجوية لنفس الأسبوع من يوليو/تموز 2022 جاءت كما لو أنها نسخة متطابقة من النشرة الجوية الافتراضية نفسها، وذلك قبل 28 عاماً من تلك التوقعات، في مؤشر لا يقبل الشك على مدى التسارع الذي يشهده التغير المناخي، بحسب خبراء الأرصاد.

أما الحقيقة الثانية فقد وقعت في المجر، أيضاً في أوروبا. كانت الحكومة في المجر تستعد لحدث وصف بأنه “أكبر عرض للألعاب النارية في أوروبا”، مساء السبت 21 أغسطس/آب 2022، للاحتفال بعيد القديس ستيفن، الذي يعد عيداً وطنياً هناك. لكن قبل 7 ساعات من الموعد المقرر لبدء الحدث، أجّلت الحكومة الحدث بسبب تحذيرات من “طقس قاس”، لكن الطقس هادئ، ما أدى إلى إقالة رئيس ونائب رئيس هيئة الأرصاد الجوية، بحسب تقرير لهيئة الإذاعة البريطانية BBC.

والذي حدث هو أن العاصفة الممطرة، التي كانت خدمة الأرصاد الجوية الوطنية قد توقعت أن تغيّر اتجاهها، ضربت أجزاءً من شرق المجر بدلاً من ذلك، ولم تضرب العاصمة بالكامل. ونشرت الخدمة اعتذاراً عاماً، موضحة أن النتيجة “الأقل احتمالاً” حدثت، وأن عدم اليقين هو جزء من التنبؤ بالطقس. ولكن بعد فوات الأوان. إذ أقال وزير الابتكار لازلو بالكوفيتش، رئيسي الخدمة فوراً.

الخلاصة هنا هي أن الوتيرة المتسارعة بشكل غير مسبوق لموجات الطقس المتطرف أصبحت تمثل عاملاً خطيراً في مدى دقة توقعات الأرصاد، حتى في القارة الأكثر تقدماً من الناحية العلمية والتقنية، أي أوروبا.

*الجفاف في أوروبا.. الوضع القائم الجديد
تتسبب درجات الحرارة العالية وموجات الجفاف في خسائر كبيرة للاقتصاد الأوروبي، وحسب دراسة لعدد من الخبراء الاقتصاديين الأوروبيين، فإن موجات الحرارة الطويلة ستؤثر على الناتج الداخلي الخام لأوروبا، وتوقعت الدراسة نفسها أن نمو الناتج الداخلي الخام الأوروبي سيتراجع بنسبة 0.5% مقارنة بالسنوات العشر الماضية.

فرنسا

ففي فرنسا، أعلنت رئيسة الوزراء إليزابيث بورن عن تشكيل فريق للتعامل مع موجة الجفاف الأسوأ في تاريخ البلاد منذ 64 عاماً، كما أن 100 منطقة في فرنسا باتت تعاني من غياب تام للمياه الصالحة للشرب، ومن المتوقع أن يستمر الوضع خلال الأشهر المقبلة. وأعلنت شركة الكهرباء الفرنسية “إي دي إف” (EDF) عن تخفيض حجم الطاقة التي ينتجها أحد مفاعلاتها النووية بسبب ارتفاع درجة حرارة الماء الذي يتم استعماله لتبريد المفاعلات.

إسبانيا

أما إسبانيا فقد أصبح مخزونها من المياه 40% فقط، وهو أدنى مستوى له بالتاريخ، وتتناقص هذه النسبة بحوالي 1.5% مع كل أسبوع تستمر فيه الحرارة المفرطة وتغيب فيه التساقطات المطرية، وحسب الحكومة الإسبانية فإن هذه السنة هي الأكثر جفافا منذ 60 عاماً.

وفي إيطاليا، أعلنت الحكومة رسميا أن هذه السنة هي أكثر سنة جافة في تاريخ البلاد، وحسب الجمعية الإيطالية للأرصاد الجوية فإن ما يحدث في البلاد لم يتم تسجيله منذ أكثر من 230 سنة. ومن أبرز مظاهر حالة الجفاف في البلاد الحالة المزرية لنهر “بو” الذي كان يبلغ طول تدفقه 652 كيلومتراً، وتراجع إلى 10% عن المعتاد.

ألمانيا

أما ألمانيا، فيعتبر نهر “الراين” من أهم الأنهار في العالم، وعبره تمر أكبر حركة تجارية في أوروبا، ويربط ألمانيا بالموانئ الكبرى، خصوصا روتردام في هولندا، والموانئ في بريطانيا، وتراجع مستوى المياه في النهر أدى لتباطؤ حركة السفن فيه، وبلغ مستوى التأخير حوالي 132 يوماً، وباتت بعض السفن تستوعب 25% فقط من قدرتها تجنباً للجنوح في النهر، وهو ما يؤدي لارتفاع تكاليف الشحن.

وسجلت بلجيكا أكثر سنة جافة في تاريخها منذ سنة 1885، كما تراجع منسوب المياه في عدد من أنهارها.

أما في بريطانيا، فقد أعلنت الحكومة عن دخول 8 مناطق بالبلاد في حالة “جفاف حاد”، كما تم تسجيل أسخن صيف في تاريخ بريطانيا منذ سنة 1976، وكان يوليو/تموز الماضي الشهر الأكثر حرارة منذ سنة 1935.

لكن على الرغم من أن موجة الجفاف الحالي هي الأسوأ في أوروبا منذ 500 عام، يحذر علماء المناخ من أن الظروف الجوية القاسية مثل الجفاف وموجات الحرارة وحرائق الغابات أصبحت بالفعل هي الأمر الواقع الجديد، وقالت عالمة المناخ إيلا جيلبرت من هيئة المسح البريطاني في القطب الجنوبي لـ”بي بي سي” إننا بحاجة إلى البحث عن حلول للتكيف مع التغير المناخي وعواقبه.

الخلاصة هنا هي أن التغير المناخي هو السبب الأول وراء الارتفاعات القياسية في درجة حرارة الكوكب عموماً، وقارتي أوروبا وأمريكا الشمالية خصوصاً، لكن تراجع أوروبا عن هدف تقليص الانبعاثات الكربونية بنسبة 55% بحلول عام 2030 زاد الطين بلة بالنسبة للقارة العجوز تحديداً، التي لم يعرف سكانها يوماً الصحراء ولا طقسها المتطرف ولا الحرمان من المياه بسبب الجفاف، لكن أصبحت تلك الأجواء القاسية هي الواقع الجديد بالنسبة للأوروبيين.

* المصدر : عربي بوست

قد يعجبك ايضا
WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com