سوريا من بوابة المقاومة إلى ممر التطبيع
كيان الأسدي
لم تعد سوريا التي عرفناها لعقود؛ تلك التي وقفت إلى جانب قوى المقاومة واحتضنت قضايا الأمة من لبنان إلى فلسطين، ومن العراق إلى اليمن. اليوم، تتغير ملامح المشهد السوري على نحو دراماتيكي، حيث تتحول البلاد تدريجياً إلى ساحة وظيفية تخدم مصالح قوى إقليمية ودولية، وفي طليعتها الكيان الصهيوني.
التحولات الأخيرة على الساحة السورية لم تعد قابلة للتبرير أو التجاهل. فوجود فاعل مثل أبو محمد الجولاني، زعيم “هيئة تحرير الشام”، وسيطرته على مفاصل القرار في سوريا، وما يتسرب من معلومات حول تفاهمات غير معلنة مع قوى غربية وإقليمية، يوحي بأن المشروع السياسي القادم لا يقف عند حدود التغيير الداخلي، بل يمتد نحو نسف موقع سوريا التاريخي في محور المقاومة.
من رام الله إلى إدلب: نسخة جديدة من السلطة الوظيفية
إن ما نشهده اليوم في سوريا يعيد إلى الأذهان تجربة “سلطة أوسلو” في رام الله، حيث تحولت السلطة الفلسطينية إلى أداة تنسيق أمني مع الاحتلال، بدل أن تكون أداة تحرر. التفاهمات الأمنية التي تربط الأجهزة الفلسطينية بنظيرتها الإسرائيلية، باتت النموذج الذي يُراد استنساخه في سوريا، ولكن بغطاء “محاربة الإرهاب” أو “إدارة مناطق خفض التصعيد”.
وتماماً كما جرى في الضفة الغربية، حيث أصبح التنسيق الأمني سيفاً مسلطاً على رقاب المقاومين، فإن نفس السيناريو يُهيأ لسوريا، لتكون فيها قوى الأمر الواقع أدوات وظيفية لضرب أي نشاط مقاوم، أو ملاحقة أي تحرك يعارض الانخراط في مشروع التسوية الإقليمية.
معاهدة أبراهام: سـوريا على الهامش أم في قلب المخطط؟
معاهدة أبراهام، التي مهّدت الطريق لتطبيع عدد من الدول العربية مع الكيان الصهيوني، لم تكن مجرد اتفاق سياسي؛ بل جزء من إعادة هيكلة شاملة للمنطقة، تقوم على تحييد قوى المقاومة، واختراق الجغرافيا العربية من الداخل. وإذا كانت بعض الدول الخليجية قد انخرطت صراحة في هذا المشروع، فإن سوريا – في ظل المتغيرات الحالية – قد تُستدرج إليه من الباب نفسه، عبر تفاهمات أمنية تحت الطاولة، وتسهيلات استخباراتية تعني في المحصلة مشاركة وظيفية في المشروع الصهيوني.
ولا يمكن تجاهل أن هذه المرحلة تتزامن مع انفتاح عربي رسمي على الكيان، ومع زيادة الضربات الجوية الإسرائيلية داخل سوريا، في ظل صمت رسمي مطبق، وتحول الأجواء السورية إلى ساحة تصفية حسابات دون أي رد يُذكر. وهذا ما يؤكد أن مسار التطبيع لا يتم فقط عبر السفارات والبيانات، بل من خلال التفكيك الصامت للبنية الاستراتيجية للممانعة.
الأمن القومي العراقي واللبناني في مرمى النيران
التبعات لا تقف عند حدود سوريا. فالعراق، الذي يرتبط عضوياً بسوريا في الجغرافيا والمقاومة، سيكون أول المتأثرين بهذا التحول الخطير. أي اختراق أمني صهيوني في سوريا سيعني مباشرة تمدد هذا النفوذ نحو الداخل العراقي، عبر تجنيد عملاء، أو تنفيذ اغتيالات، أو حتى رسم خرائط جديدة للنفوذ داخل المناطق الحدودية. وليس من قبيل المصادفة أن تزايدت عمليات الاستهداف داخل العراق في اللحظة ذاتها التي بدأت فيها ملامح التحول السوري تتضح.
أما في لبنان، فالمعادلة لا تقل خطورة. إذ إن وجود استخباراتي أو عسكري إسرائيلي في الداخل السوري، وتحديداً في المناطق القريبة من الحدود اللبنانية، سيمنح العدو قدرة أكبر على تطويق المقاومة، ومراقبة تحركاتها، وفرض معادلات ميدانية جديدة. وسنكون أمام تهديد جدي للعمق الاستراتيجي الذي طالما وفّرته سوريا لخطوط الإمداد والعمليات بين فصائل المقاومة في لبنان وفلسطين.
ما بعد التطبيع: إعادة هندسة الشرق الأوسط
ما يجري لا يمكن قراءته كخطوات منفردة أو عشوائية. نحن أمام مخطط متكامل لإعادة هندسة الشرق الأوسط سياسياً وأمنياً، بحيث يُمحى فيه كل ما تبقى من قوى الرفض والممانعة. فالمسألة لم تعد تتعلق فقط بالتطبيع السياسي، بل بإعادة تعريف العدو والصديق، وتقسيم المنطقة إلى كيانات خاضعة لمنظومة أمنية واحدة، بقيادة كيان “إسرائيل”، وبرعاية أمريكية-خليجية.
وفي هذا الإطار، فإن سوريا، في حال استمرار هذا المسار، قد تتحول إلى “دولة فاصلة” بين “إسرائيل” وبقية المحيط العربي، تؤدي وظيفة عزل لا احتضان، وتتحول من بوابة عبور للمقاومة، إلى حاجز أمني ضدها.
المطلوب: موقف واضح لا يحتمل التأويل
إن القراءة الباردة أو المترددة لهذا المشهد تعني عملياً التسليم بالاختراق الصهيوني دون مقاومة. المطلوب اليوم ليس احتواء سوريا الجديدة، بل تسميتها كما هي: كيان وظيفي ناشئ، قد يتحول إلى رأس جسر للتطبيع الأمني والعسكري.
وعليه، فإن قوى المقاومة، ومعها كل القوى الحيّة في المنطقة، مطالبة بتحديد موقف لا لبس فيه. لا حوار مع من ينسق مع العدو. ولا دعم لمن يفتح أرضه لاستخبارات الاحتلال.
وسوريا التي تتحول إلى نسخة محدثة من سلطة رام الله، لا يمكن معاملتها كحليف، بل يجب مواجهتها كخطر استراتيجي يهدد مستقبل الصراع العربي-الصهيوني.