الإمام السجاد.. صوت الحق الصادح في زمن تكميم الأفواه وحامل الراية بعد واقعة “كربلاء”
بعد واقعة الطف الأليمة، عاش الإمام زين العابدين عليه السلام، وضعاً سياسياً واجتماعياً صعباً، نظراً لما سببته قضية الخذلان والهزيمة النفسية التي مُني بها أهل الكوفة أمام نداءات الاستغاثة لنصرة الدين التي أطلقها والده الإمام الحسين عليه السلام, وهذا ما جعل دور الإمام يتخذ صبغة جديدة, تواكب المرحلة الاجتماعية والسياسية للأمة، في مرحلة كانت الحالة فيها شديدة والنفوس مقهورة ومهزومة والأفواه مكممة, فبرز دوره الريادي في إعادة بناء النفوس التي لوثتها جريمة الطف، وإعادة المسلمين الى فطرتهم السليمة، ثم الى إيمانهم ودينهم كما أراد لهم الله تبارك وتعالى, لجأ الإمام السجّاد عليه السلام الى أساليب جديدة في الدعوة الى الله تعالى، ومجابهة المنكر، وصون رسالة جده من الانحراف، على خُطى والده الشهيد.. وكان سلاحه الجديد على الساحة هو «الدعاء» الذي من خلاله دون الأحداث وصنع وعي الأجيال ورجال المستقبل على امتداد مئات السنين, وهي «الصحيفة السجادية» وبجانبها أدعية أخرى,.
وقد نجح الإمام -وكذلك أئمةُ أهل البيت (ع)- في ذلك، حيث تمكَّنوا من إعطاء الأمة والهويَّة الدينيَّة القدرةَ على الصمود أمام عوامل الانهيار التام, كما لعب دورا أساسيا في تهيأة ولده الإمام زيد بن علي وبناء وتشكيل شخصيته ما أهله لقيادة الثورة ضد الحكم الأموي, وترك أمة ما تزال تسير على نهجه من ذلك اليوم إلى الآن.
يمانيون| أعد المادة للنشر| محسن الجمال
نسبه الشريف
الإمام عليُّ بن الحسين بن عليِّ بن أبي طالب عليهم السلام
كنيته وألقابه ونقش خاتمه
أمَّا كنيتُه فأبو الحسن وأبو محمد، وأمَّا ألقابُه فكثيرة منها, زين العابدين, و ذو الثفناث، وسيد الساجدين, والأمين، والزكي، وزين الصالحين، والبكَّاء، واشتُهر بزين العابدين، والسجَّاد، وأمَّا نقشُ خاتمه فقد كان له أكثر من خاتم، نقشَ على أحدها (خُزي وشُقي قاتلُ الحسين) ونُقش على آخر (العزَّةُ لله).
ولادته
وُلد الإمام عليُّ بن الحسين (ع) في الكوفة يوم الخامس من شعبان سنة 38هـ وأدرك من حياة جدِّه أمير المؤمنين (ع) سنتين واضطلع بمسئولية الإمامة بعد استشهاد والده الحسين الشهيد (ع) وكان عمره الشريف آنذاك 22 سنة أو 23 سنة،
نشأته
نشأ الامام في أرفع بيت وأسماه ألا وهو بيت النبوّة والإمامة الذي أذن الله أن يرفع ويذكر فيه اسمه ، ومنذ الأيام الاُولى من حياته كان جده الإمام علي بن أبي طالب يتعاهده بالرعاية، فكان الحفيد صورة صادقة عن جدّه، يحاكيه ويضاهيه في شخصيّته ومكوّناته النفسية,كما عاش علي بن الحسين في كنف عمّه الحسن بن علي، إذ كان يغدق عليه من عطفه وحنانه، وكان طوال هذه السنين تحت ظلّ والده الحسين- سبطي رسول الله صلوات الله عليه وآله- الذي رأى في ولده امتدادًا ذاتيًّا ومشرقًا لروحانيّة النبوّة ومُثُل الإمامة، فأولاه المزيد من رعايته وعنايته، وقدّمه على بقية أبنائه، وصاحَبَه في أكثر أوقاته, واستقى علومه من هذه المصادر والقنوات الطاهرة, وبذلك برز علىٰ الصعيد العلمي والديني ، إماماً في الدين ومناراً في العلم ، ومرجعاً ومثلاً أعلىٰ في الورع والعبادة والتقوىٰ حتّىٰ سلّم المسلمون جميعاً في عصره بأنّه أفقه أهل زمانه وأورعهم وأتقاهم.
زوجته وأولاده
تزوح فاطمة بنت عمه الإمام الحسن بن علي عليهما السلام, وله عدة أولاد منهم : الإمام الباقر, والإمام زيد وغيرهم.
أخلاق وصفات الإمام علي بن الحسين السجاد عليه السلام
-وصف الفرزدق الشاعر الإمام زين العابدين عليه السلام بأنه أحسن الناس وجها وأطيبهم رائحة و كان بين عينيه أثر السجود ولذا لقّب بالسجّاد, ويُروى: أن هشام بن عبد الملك حج فلم يقدر علی الاستلام من الزحام, فنُصب له منبر فجلس علیه وأطاف به أهل الشام، فبينما هو كذلك إذ أقبل عليّ بن الحسين وعلیه إزار ورداء، من أحسن الناس وجهًا وأطيبهم رائحةً، بين عينيه سجّادة,فجعل يطوف، فإذا بلغ إلی موضع الحجر تنحّي الناس حتّى يستلمه هيبةً له’ فقال شاميّ: مَنْ هَذَا يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ؟!
فنكره هشام وقال: لاَ أَعْرِفُهُ؛ لئلّا يرغب فيه أهل الشام. فقال الفرزدق (وكان من شعراء بني أُميّة ومادحيهم) وكان حاضرًا: لكنّي أنا أعرفه. فقال الرجل الشاميّ: مَن هو يا أبا فراس؟! فأنشأ قصيدة مطلعها:
يَا سَـائِلِي: أَيْنَ حَـلَّ الجُـودُ وَالكَـرَمُ
عِنْـدِي بَـيَـانٌ إذَا طُـلاَّبُـهُ قَـدِمُـوا
هَذَا الذي تَعْـرِفُ البَطْـحَاءُ وَطْـأَتَـهُ
وَالبَـيْـتُ يَعْـرِفُـهُ وَالحِـلُّ وَالحَـرَمُ
هَذَا ابْنُ خَيْرِ عِبَادِ اللَهِ كُلِّهِمُ
هَذَا التَّقِيُّ النَّقِيُّ الطَّاهِرُ العَلَمُ
هَذَا الذي أحْمَدُ المُخْتَارُ وَالِدُهُ
صَلَّي عَلَیهِ إلَهِي مَا جَرَي القَلَمُ
لَوْ يَعْلَمُ الرُّكْنُ مَنْ قَدْ جَاءَ يَلْثِمُهُ
لَخَرَّ يَلْثِمُ مِنْهُ مَا وَطَي القَدَمُ
هَذَا علی رَسُولُ اللَهِ وَالِدُهُ
أَمْسَتْ بِنُورِ هُدَاهُ تَهْتَدِي الاُمَمُ
هَذَا الَّذِي عَمُّهُ الطَّيَّارُ جَعْفَرٌ
وَالمَقْتُولُ حَمْزَةُ لَيْثٌ حُبُّهُ قَسَمُ
هَذَا ابْنُ سَيِّدَةِ النِّسْوَانِ فَاطِمَةٍ
وَابْنُ الوَصِيِّ الَّذِي في سَيْفِهِ نِقَمُ
إذَا رَأتْهُ قُرَيْشٌ قَالَ قَائِلُهَا
إلَی مَكَارِمِ هَذَا يَنْتَهِي الكَرَمُ
-وقال عنه ابنه محمّد الباقر عليه السلام :
كان أبي علي بن الحسين عليه السلام إذا انقضى الشتاء يتصدق بكسوته على الفقراء وإذا انقضى الصيف يتصدّق بها أيضا كان يلبس أفخر الثياب وإذا وقف للصلاة اغتسل و تطيّب.
-اعترف بهذه الحقيقة حكّام عصره من بني أميّة أنفسهم ، رغم ما بينه وبينهم من عداوة وخصومة ، فقال له عبدالملك بن مروان يوماً : « لقد أوتيت من العلم والدين والورع ما لم يؤته أحد مثلك قبلك إلّا من مضىٰ من سلفك .. »
اشتهر الإمام زين العابدين بكثرة دعائه وبكائه:
يقول طاووس اليماني وكان رجلا من أصحابه: رأيت رجلا يصلّي في المسجد الحرام تحت الميزاب يدعو ويبكي في دعائه فجئته حين فرغ من صلاته فإذا هو زين العابدين عليّ بن الحسين عليه السلام فقلت له: يا ابن رسول الله تبكي وأنت ابن رسول الله فقال أما أني ابن رسول الله فلا يأمنّني من عذاب الله وقد قال الله “فلا أنساب بينهم يومئذ” لقد خلق الله الجنّة لمن أطاعه وأحسن ولو كان عبدا حبشيّا وخلق النار لمن عصاه وأساء ولو كان سيّدا قرشيّا .
مواقف من إحسانه
-ذهب الإمام إلى محمد بن أسامة بن زيد ليعوده في مرضه فرآه يبكي فقال الإمام “ما يبكيك؟”
فقال محمد بن أسامة: عليّ دين فقال الإمام وكم يبلغ؟ قال: خمسة عشر ألف دينار
فقال الإمام هو عليّ وفّاه عنه.
-كان الإمام يخرج في منتصف الليل ويحمل معه الأموال والطعام ويجوب المدينة فيوزّع على فقرائها ما يحمله وهم لا يعرفونه وكان يعول أكثر من مائة أسرة وعندما استشهد افتقدوا ذلك الرجل فعرفوا أنّه الإمام عليه السلام.
-كان زين العابدين عليه السلام جالسا بين أصحابه فجاءه رجل من أبناء عمومته وشتمه وأسمعه كلاما مرّا فلم يكلّمه الإمام حتّى مضى ثمّ قال الإمام لأصحابه قد سمعتم ما قال هذا الرجل و أنا أحب أن تبلغوا معي حتى تسمعوا ردّي عليه فقاموا معه يظنّون أن الإمام سوف يرد عليه بالمثل .
طرق الإمام الباب فخرج الرجل مستعدا للشر فقال له الإمام بأدب جم يا أخي انك قلت فيّ ما قلت فان كان حقّا فأستغفر الله منه وإن كان باطلا فغفر الله لك فتأثّر الرجل وندم وأقبل على الإمام معتذرا.
من كلماته المضيئة
قال لابنه الباقر عليهما السلام:
-يا بني انظر خمسة فلا تصاحبهم ولا تحادثهم في الطريق.. إياك ومصاحبة الكذّاب فإنه بمنزلة السراب يقرّب لك البعيد ويبعد لك القريب وإياك ومصاحبة الفاسق فإنه يبيعك بأكلة وما دونها وإياك ومصاحبة البخيل فإنه يخذلك فيما أنت أحوج ما تكون إليه وإياك ومصاحبة الأحمق فإنه يريد أن ينفعك فيضّرك وإياك ومصاحبة القاطع لرحمه فإني وجدته ملعونا في كتاب الله.
-يا بني افعل الخير إلى كل من طلبه منك فإن كان من أهله فقد أصبت موضعه وإن لم يكن من أهله كنت أنت من أهله وإن شتمك رجل عن يمينك ثم تحوّل إلى يسارك واعتذر إليك فاقبل عذره.
-«إذا رأيتم الرجل قد حسُنَ سمتُه وهديه، وتمادى في منطقه وتخاضع في حركاته، فرويدًا لا يغرنكم، فما أكثر من يعجزه تناول الدنيا وركوب الحرام فيها، لضعف بنيته ومهانته وجبن قلبه، فنصبَ الدين فخًا له، فهو لا يزال يُختل الناس بظاهره، فإنّ تمكن من حرام اقتحمه، وإذا وجدتموه يعفّ عن المال الحرام فرويدًا لا يغرّنّكم، فإنّ شهوات الخلق مختلفة، فما أكثر من يتأبّى من الحرام وإن كثر، ويحمل نفسه على شوهاء قبيحة، فيأتي منها محرمًا، فإذا رأيتموه كذلك، فرويدًا حتى لا يغرّنّكم عقده وعقله، فما أكثر من ترك ذلك أجمع ثمّ لا يرجع إلى عقل متين، فيكون ما يفسده بجهله أكثر مما يصلحه بعقله… فإذا وجدتم عقله متينًا فرويدًا لا يغرنكم حتى تنظروا أيكون هواه على عقله، أم يكون عقله على هواه ؟ وكيف محبته للرياسة الباطلة وزهده فيها ؟ فإنّ في الناس من يترك الدنيا للدنيا، ويرى لذّة الرياسة الباطلة أفضل من رياسة الأموال والنعم المباحة المحللة، فيترك ذلك أجمع طلبًا للرياسة، حتى إذا قيل له اتق الله أخذته العزّة بالاثم فحسبه جهنم وبئس المهاد… فهو يحلّ ما حرم الله، ويحرم ما أحلَّ الله لا يبالي ما فات من دينه إذا سلمت له الرياسة التي قد شقي من أجلها، فاولئك الذين غضب الله عليهم ولعنهم وأعدّ لهم عذابًا أليما… ».
-أيُّها الناس، اتقوا الله، واعلموا أنكم إليه راجعون، فتجد كلّ نفسٍ ما عملت من خيرٍ محضرًا… ويحذّركم الله نفسه… ويحك ابن آدم، إن أجلك أسرع شيء إليك، ويوشك أن يدركك، فكأنك قد أوفيت أجلك، وقد قبض الملك روحك، وصُيّرت إلى قبرك وحيدًا… فان كنت عارفًا بدينك متّبعًا للصادقين، مواليًا لاَولياء الله، لقّنك الله حجتك، وأنطق لسانك بالصواب، فأحسنت الجواب، وبُشّرت بالجنّة والرضوان من الله، واستقبلتك الملائكة بالروح والريحان، وإن لم تكن كذلك تلجلج لسانك، ودُحضت حجتك، وعييت عن الجواب وبُشرت بالنار، واستقبلتك ملائكة العذاب بنُزُلٍ من حميم، وتصلية جحيم.. »
-من أقواله أيضا القصيدة ليس الغريب التي مطلعها:
لَيْسَ الغَريبُ غَريبَ الشَّأمِ واليَمَنِ * إِنَّ الغَريبَ غَريبُ اللَّحدِ والكَفَنِ
إِنَّ الغَريِبَ لَهُ حَقٌّ لِغُرْبَتـِهِ * على الْمُقيمينَ في الأَوطــانِ والسَّكَنِ
الإمام (ع) كما يصفه الآخرون
-قال عمر بن عبد العزيز الأموي عندما نُعي عنده الإمام (ع): (ذهب سراجُ الدنيا وجمالُ الإسلام وزينُ العابدين)
-قال سعيدُ بن المسيَّب: (هذا الذي لا يسعُ مسلماً أنْ يجهله) وقال: ما رأيتُ قطُّ أفضلَ من عليِّ بن الحسين، وما رأيتُه قطُّ إلا مقتُّ نفسي
-قال جابر بن عبد الله الأنصاري: (ما رُؤيَ في أولاد الأنبياء مثل عليِّ بن الحسين)
آثاره العلميَّة
دوَّن العلماء من أبناء الشيعة -وكذلك السنَّة- الكثيرَ ممَّا أُثر عن الإمام (ع) من أحاديثَ كان يُلقيها في المسجد النبويِّ كلَّ جمعة، وفي موسم الحج وفي مجلسه العامر بالعلماء والروَّاد -وقد كانت أحاديثُه تبيانًا للمعارف الإسلاميَّة حيثُ كان يتصدَّى فيها لتفسير القرآن الكريم والتعريف بالعقائد الدينيَّة الصحيحة، والأحكام الشرعيَّة ومعالجة ما أشكل منها على الناس، هذا بالإضافة إلى ما زخرتْ به أحاديثُه من مواعظَ وحكم، ولهذا وجد العقلاءُ والزهَّاد ضالَّتهم عند منبرِه وفي مجلسِه ومنها:
الصحيفة السجّاديّة
احتوت على 54 دعاءً, غير ما اُلحق بها بعد ذلك من أدعية للإمام (ع) وغير الأدعية الطويلة التي تناقلها التقاة من الرواة كدعاء أبي حمزة الثمالي، هذا وقد ضمَّن الإمامُ (ع) هذه الأدعية كثيرًا من المعارف الإسلاميَّة والاعتقادات الدينيَّة.
كالتوحيد والعدل الإلهي وسائر الصفات الذاتية لله (جلَّ وعلا) ومسائل النبوَّة والإمامة، ورغم أنَّها جاءت بصيغة الدعاء والمناجاة إلا أنَّها احتفظت بالصبغة البرهانيَّة المتناسبة مع هذه المسائل، ثم إنَّ هذه الأدعية لم تقتصر مضامينُها على ما ذكرناه بل إنَّها اشتملت على الكثير من المعالجات النفسية والتربويَّة والكثير من القِيم والمبادئ الاجتماعيَّة، فكانت بحقٍّ واحةً لخلق الإنسان الكامل والمجتمع الكامل, ولكنها في الحقيقة مدرسة كبرى تعلّم الإنسان الخلق الكريم والأدب الرفيع إضافة إلى المسائل الفلسفيّة والعلميّة و الرياضيّة وحتى السياسة وهذه نماذج من أدعيته عليه السلام:
وللإمام أدعية خاصة بالأيام ولكل أسبوع دعاء وخمس عشرة مناجاة تنساب كلماتها رقة وعذوبة وتدل على أدب رفيع ونفس خاشعة لله سبحانه.
في ظلال دعاء مكارم الأخلاق للشهيد القائد
وهنا الشهيد القائد السيد حسين بدر الدين الحوثي رضوان الله عليه سلط الضوء على الواقع الذي كانت تمر فيه الأمة بعد معركة كربلاء وكيف بنى الإمام زين العابدين الأجيال من المجاهدين على امتداد مئات السنين, حيث يقول في دروس ظلال دعاء مكارم الأخلاق –الأول والثاني- وهو أحد أدعية الإمام السجاد بقوله :
إذا كان زين العابدين يمكن فعلاً أن تصدق عليه تلك الصفات التي ذكرها الله للمؤمنين بما فيها الجهاد في سبيل الله, وإن كان الواقع الذي عاش فيه واقعا مظلما, أمة هُزِمت وقُهِرت، وأُذلِّت تحت أقدام يزيد, وأشباه يزيد، لكنه هو من عمل الكثير الكثير وهو يوجه، وهو يعلِّم, وهو يربي، أليس الإمام زيد هو ابنه؟ من أين تخرج الإمام زيد؟ إلا من مدرسة أبيه زين العابدين.
إن الحالة التي كان فيها حالة فعلاً شديدة، بالغة الشدة النفوس مقهورة ومهزومة والأفواه مكممة، لكن زين العابدين من أولئك الذين يفهمون بأن المجالات دائماً لا تغلق أمام دين الله فانطلق هو ليعلم ويربي، ويصنع الرجال؛ لأنه يعلم أنه إن كان زمانه غير مهيأ لعمل ما فإن الزمان يتغير فسيصنع رجالاً للمستقبل. وصنع فعلاً وخرج الإمام زيد (عليه السلام) شاهراً سيفه في سبيل الله, وترك أمة ما تزال تسير على نهجه من ذلك اليوم إلى الآن.
هو عبرة للعلماء، قدوة للمعلمين الذين يرون بأن الأوضاع قد أطبقت، والناس لم يعودوا بالشكل الذي يمكن أن يؤثر فيهم كلام، أو يحركهم كلام، لينطلقوا في نصر الحق, ومقاومة الباطل وإزهاقه, فليسلكوا طريقة زين العابدين, الإمام علي بن الحسين, اجمع ولو خمسة من الطلاب تختارهم ثم علمهم، قدم لهم الدين كاملا، ابعث في نفوسهم الأمل، علمهم الأمل الذي يبعثه القرآن الكريم، لا تسمح بأن يكونوا عبارة عن نسخ للواقع الذي أنت فيه، لا تسمح أن تمتد هزيمتك النفسية إليهم، إلى أنفسهم، حاول دائما أن تعلمهم كيف يكونون رجالا, كيف يكونون جنداً لله, كيف يكونون من أنصار الله, كيف يعملون في سبيل الله لإعلاء كلمته ورفع رايته.”
ويضيف “كلنا نعرف ذلك الظرف القاهر الذي كان يعيشه زين العابدين (صلوات الله عليه)، لكن ننظر ماذا عمل زين العابدين، بنى زيداً, وبنى الكثير من الرجال، الذين انطلقوا فيما بعد حركة زيدية جهادية جيلا بعد جيل على امتداد مئات السنين.
هو نفسه كان يقول: ((اللهم بلغ بإيماني أكمل الإيمان)) وقد يكون في واقعه ليس ممن رضي لنفسه تلك الحالة التي كان عليها، لكن ذلك هو أقصى ما يمكن أن يعمله، لا يستطيع أن يخرج هو فيعلن الدعوة إلى إعلاء كلمة الله ونصر دين الله، ليس لضعفه هو, أو لعدم كماله, وإنما رأى الناس من حوله كلهم مهزومين، كلهم مقهورين, فمن الذي يستطيع أن يحركهم؟.
وهذه أحيانا تحصل، تحدث وضعيات كهذه، لكنها وضعيات هي نتيجة تقصير من قبل الناس أنفسهم يوم تخاذلوا مع علي (عليه السلام) كانت نتيجة تخاذلهم قوة للباطل في جانب بني أمية، جعلت مواجهتهم لذلك الباطل في أيام الإمام الحسن صعبة جداً، تخاذلوا معه أيضاً, جعلت المواجهة في أيام الإمام الحسين أكثر صعوبة أيضا، وصل الحال إلى أن يصبح واقع الأمة في عصر زين العابدين هو الانكسار، الهزيمة المطلقة، هي الظروف الصعبة, هي الحالات السيئة التي يصنعها تخاذل الناس.
هي حالات يخلقها – أحياناً – ضعف وعي ممن ينطلقون للعمل، وإن كانوا تحت راية علي (عليه السلام) ويحملون اسم جند الله, وأنصار الله لكن وعيهم، لكن إيمانهم القاصر, إيمانهم الناقص أدى إلى أن يرتكبوا جناية على الأمة فضيعة.”
رسالة الحقوق
وهي 50 رسالة في أنواع الحقوق، وتعتبر نتاجٌ غيرُ مسبوق، إذ لم يُؤثَر عن أحدٍ من العلماء أو الفلاسفة في الحضارات التي سبقتْ الإسلام أنَّه كتب رسالةً مستقلَّة في الحقوق، هذا وقد بلْورَ الإمامُ (ع) في هذه الرسالة الرؤيةَ الإسلاميَّة الصافية تجاه ما ينبغي أنْ يكون عليه نظْمُ العلائق الاجتماعيَّة، فحدَّد بذلك ما لكلِّ فردٍ وما عليه من حقوقٍ بعد أنْ صنَّف أفراد المجتمع على أساس مواقعهم الاجتماعيَّة أو ملَكاتهم الشخصيَّة أو وظائفهم الدينيَّة أو علائقهم الإنسانيَّة أو النسَبيَّة، هذا وقد صدَّر رسالته الشريفة بتحديد نحو العلاقة بين الإنسان وربِّه ثم أردف ذلك بتبيان حقِ النفس على الإنسان وحقوق جوارحِه عليه.
المرحلة التي عايشها الإمام (ع)
المرحلة التي عايشها الإمامُ(ع) إبَّان إمامته كانت دقيقةً وحرجةً جدًا حيثُ لم يعُد النظامُ الأموي يخشى من التعبير عن هويَّته بعد أنْ كشفت أحداثُ كربلاء عن طبيعتها، ولذلك أشاع الفسادَ في أرجاء الحواضر الإسلاميَّة، فأظهر الناسُ الفسوقَ وتعاطي الخمور، وكانت بيوتات مكة والمدينة تضجُّ بالغناء والرقص، حيث لم يبقَ في مدينة الرسول ومكّة « أكثر من عشرين رجلاً يحبّوننا أهل البيت » فقط.
المرحلة المنعطف
سجلت حياة الإمام السجّاد عليه السلام منعطفاً مهماً بين مرحلتين فاصلتين في عمل أئمّة أهل البيت عليهم السلام
الاُولىٰ : مرحلة التصدّي والصراع السياسي والمواجهة العسكريّة ضدّ المنحرفين والمحرّفين من الفاسقين والمارقين والناكثين ، وقبلهم الكفرة والمنافقين وأعداء الدين الواضحين ..
الثانية : مرحلة المعارضة السياسيّة الصامتة ، أو الرفض المسؤول الواضح للانحراف ، أمام الضبابيّة والزيف الملفّع بالدين ، وبعد ذلك بناء القاعدة الشعبيّة والجماعة الواعية التي تتحمّل عبء الرسالة لمواجهة الانحراف والتحريف اللذين غرقت أو استُغرقت فيهما الحالة الدينيّة تحت شعارات الإسلام نفسها ويافطات الآيات القرآنيّة والأحاديث النبويّة ..
محطات رئيسية في حياة السجاد
يمكن اعتبار حضوره في كربلاء ومواقفه في الشام ، وتخطيطه في المدينة بعد عودته إليها هي المحطات الثلاثة التي تؤشّر الأبعاد الحقيقيّة التي بلورت شخصيّته الجهاديّة في قابل الأيّام والسنين ، فضلاً عن محطته الرئيسيّة في بيت العصمة والطهارة الذي نشأ وعاش وترعرع فيه وخاصة مع جدّه الإمام علي وأبيه الحسين وعمّيه الحسن والعباس عليهم السلام.
وعند التأمّل في هذه المحطات الثلاث ، نكتشف أنّ جهاد الإمام السجّاد عليه السلام ودوره في تأصيل القيم التي من أجلها استشهد جدّه وأبوه وعمّاه ، لم تكن لتُرسم بقعقعة السيوف وصليلها فقط ، وإنّما بكشف الحقائق التي تمّ تزويرها أو التعتيم عليها بعد مصرع أبيه وبعد أن وضعت الحرب أوزارها ، وتوقّف صهيل خيولها وهجع ضجيج عساكرها وصخب مقاتليها ..
المحطة الاُولىٰ : في كربلاء :
تؤكّد المصادر التاريخيّة أنّ الإمام السجاد عليه السلام كان حاضراً في كربلاء إذ شهد واقعة الطفّ بجزئيّاتها وتفاصيلها وجميع مشاهدها المروّعة ، وكان شاهداً عليها ومؤرّخاً لها , والمتفق عليه أنه كان يوم الواقعة مريضا موعوكا وعانى من مرضه 8 أيام متوالية , وامتد به حتى وصوله الكوفة، بعد أن رأى وسمع ما حدث لأبيه وأهل بيت النبوة في كربلاء, ليصبح بعد ذلك ناطقاً رسميّاً بما شاهده واطّلع عليه ، ويكون المرجع الرئيس لإتمام المهمّة التي استشهد من أجلها والده الإمام الحسين عليه السلام ، والتي لم تنته باستشهاده ، بل إنّها بدأت بعد ذلك مباشرة فعلاً.’ ومن ثم يأتي دوره ولده الإمام زين العابدين الأكثر تجليّاً في ريادة مشروع هذه الثورة واستكمال فصولها وتجلية مفرداتها وشرح أبعادها ورسم المعالم الحقيقيّة للخط الإسلامي المحمّدي الأصيل.
المحطة الثانية : في الكوفة والشام :
نعم ، في معسكر الأعداء ، وفي أسر الخصوم ، في الكوفة ومجلس أميرها ، وفي الشام وأمام مليكها والتي لا يقل الموقف البطولي فيها عن ميدان الوغىٰ وحومة الصراع ، يستحضر الإمام السجّاد عليه السلام مصارع إخوته وأبناء عمومته ، فيقف شامخاً في قصر الإمارة بالكوفة مع عمّته زينب وهما يحملان بلاغة علي وعنفوان الحسين وعزّة العبّاس ، ليقولا بكلام عربي فصيح ومواجهة كلاميّة حادّة بينهما وبين الطاغية عبيدالله بن زياد ، قولاً لا يمكن أن يقوله ثائر مغلوب منكسر في مثل موقعهما وموقفهما وأمام هذا الطاغية الذي مازال يقطر سيفه من دماء المجزّرين في رمضاء كربلاء من أهل بيت النبوّة ..
يلتفت ابن زياد لزينب وهي جالسة حزينة منكسرة وقد صدّت بوجهها عنه فيقول : « من هذه الجالسة ؟ » فلا تكلّمه ، ويكرّر فلا تكلّمه ، فيعيد ثالثة وهي مصرّة لا تكلّمه ، حتّىٰ يقول بعض إمائها : « هذه زينب بنت فاطمة ».
فقال لها ابن زياد : « الحمد لله الذي فضحكم وقتلكم ، وأكذب أُحدوثتكم ».
فتقول عليها السلام : « الحمدُ لله الذي أكرمنا بمحمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم وطهّرنا تطهيراً ، لا كما تقول « أنت » ، وإنّما يُفتضح الفاسق ، ويكذّب الفاجر ، وهو غيرنا يا ابن مرجانة .. ».
فقال : « فكيف رأيت صنع الله بأهل بيتكِ ؟ » ، قالت : « قوم كُتب عليهم القتل فبرزوا إلىٰ مضاجعهم ، وسيجمع الله بينك وبينهم فتختصمون عنده .. » فغضب بن زياد « واستشاط » وقال : « قد شفىٰ الله غيظي من طاغيتك والعصاة المردة من أهل بيتك » ، فبكت وقالت : « لعمري لقد قتلت كهلي ، وأبرتَ أهلي ، وقطعت فرعي ، واجتثثت أصلي ، فإن يُشفك هذا فقد اشتفيتَ .. »
ثمّ يلتفت ابن زياد إلىٰ عليّ بن الحسين ويقول : « ما اسمك ؟
فقال: «أنا عليّ بن الحسين»، فقال له:
أليس قد قتل الله عليّ بن الحسين؟ فقال علي السجاد: «قد كان لي أخ يسمّى عليًّا قتله الناس، فقال ابن زياد: بل الله قتله، فقال علي زين العابدين: (الله يتوفّى الأنفس حين موتها)، فغضب ابن زياد وقال: وبك جرأة لجوابي وفيك بقية للردّ عليّ؟! اذهبوا به فاضربوا عنقه.
فتعلّقت به عمّته زينب وقالت: يابن زياد، حسبك من دمائنا، واعتنقته وقالت: لا والله لا اُفارقه فإن قتلته فاقتلني معه، فقال لها علىّ: اسكتي يا عمّة حتى اُكلّمه، ثمّ أقبل عليه فقال: أبالقتل تهدّدني يابن زياد؟ أما علمت أن القتل لنا عادة وكرامتنا من الله الشهادة؟ ثمّ أمر ابن زياد بزين العابدين وأهل بيته فحملوا إلى دار بجنب المسجد الأعظم.
في الشام
أمّا في الشام وحيث الدور الإعلامي أكثر تأثيراً من قعقعة السيوف وطعن الرماح مع ما يستبطن من فضح وكشف واحتمال تصفية وقتل ، يقف الإمام السجاد عليه السلام في مجلس يزيد ويلتمس الإذن بالحديث فيُسمح له ، فينبري بعد أن يحمد الله ويثني عليه مسفّهاً الدعاوىٰ الأمويّة التي حاولت تشويه نهضة أبيه ، وتزييف أهداف ثورته ، قائلاً :
« يا معشر الناس : فمن عرفني فقد عرفني ، ومن لم يعرفني فأنا أُعرّفه نفسي ، أنا ابن مكّة ومِنىٰ ، أنا ابن مروة والصفا ، أنا ابن محمّد المصطفىٰ .. أنا ابن من علا فاستعلىٰ ، فجاز سدرة المنتهىٰ ، وكان من ربّه قاب قوسين أو أدنىٰ ، أنا ابن من صلّىٰ بملائكة السماء مثنىٰ مثنىٰ ، أنا ابن من أُسري به من المسجد الحرام إلىٰ المسجد الأقصىٰ ، أنا ابن علي المرتضىٰ ، أنا ابن فاطمة الزهراء ، أنا ابن خديجة الكبرىٰ ، أنا ابن المقتول ظلماً ، أنا ابن المجزور الرأس من القفا ، أنا ابن العطشان حتّىٰ قضىٰ ، أنا ابن صريع كربلاء ، أنا ابن مسلوب العمامة والرداء ، أنا ابن من بكت عليه ملائكة السماء ، أنا ابن من ناحت عليه الجنّ في الأرض والطير في الهواء ، أنا ابن من رأسه علىٰ السنان يُهدىٰ ، أنا ابن من حرمه من العراق إلىٰ الشام تُسبىٰ .. أيُّها الناس إنّ الله تعالىٰ ـ وله الحمد ـ ابتلانا أهل البيت ببلاء حسن ، حيث جعل راية الهدىٰ والتُقىٰ فينا ، وجعل راية الضلالة والردىٰ في غيرنا …الخ
وهكذا تبرز وثائقيّة هذا الطرح الإعلامي البليغ ، ويتجلّىٰ دور الإمام السجاد عليه السلام في قيادة مشروع الإحياء وثورة التصحيح ، ومن هذه المحطّة تبدأ رحلة الألف ميل مسافة وعمقاً من الشام إلىٰ المدينة ، ليستأنف الإمام عليه السلام مهمّته الرسالية في استكمال هذا المشروع وريادة هذه الثورة.
المحطة الثالثة : في المدينة المنوّرة :
١ ـ دوره العلمي
لقد عاش الإمام زين العابدين عليه السلام في المدينة المنوّرة ، حاضرة الإسلام الاُولىٰ ، ومهد العلوم والعلماء ، في وقت كانت تحتضن فيه ثلّة من علماء الصحابة ، مع كبار علماء التابعين ، فكان بشهادة أكابر أبناء طبقته والتابعين لهم ، الأعلم والأفقه والأوثق ، بلا ترديد.
ولذا فقد سجّل الإمام عليه السلام سبقاً علميّاً وتاريخيّاً في رسالة تعد من مفاخر الإسلام وتراثه العلمي ، ألا وهي « رسالة الحقوق » الرسالة الخالدة المحفوظة بهذا العنوان ، والتي استوعبت جلّ الحقوق التي لا يستغني الإنسان عن معرفتها ، ولا يستغني المجتمع عن احيائها والعمل بها ، لأجل أن يكون مجتمعاً إسلاميّاً حيّاً بحقّ ، كما أرادت له الشريعة السمحة.
ومن ناحية أُخرىٰ فقد ظهرت في عهده عليه السلام مقولات عقيديّة تبنّتها فرق إسلاميّة وتمحورت حولها واتّخذت منها مناهج خاصّة في فهم عقائد الإسلام وتوجيه أحكامه ، كعقيدتي الجبر والارجاء اللتين روّج لهما الامويّون تبريراً لوجودهم في السلطة لمشروعهم السياسي ، وعقيدتي التشبيه والتعطيل في الصفات اللتين اتّخذتهما فرق متناقضة بذرائع مختلفة.
الخلفاء المعاصرون
استمرت إمامته 34 عامًا من 61 إلى 95 هـ ، عاصر فيها 6 من طواغيت وملوك بنو أمية وهم: معاوية بن أبي سفيان, ويزيد بن معاوية,,معاوية بن يزيد ,مروان بن الحكم,عبد الملك بن مروان,الوليد بن عبد الملك.
شجاعته وإباءه
عندما أُخذ الإمام زين العابدين أسيرا مع الأطفال والنساء من أهل بيت رسول الله وتم اقتيادهم إلى دمشق لمقابلة الخليفة الأموي يزيد بن معاوية، ألقى الإمام زين العابدين خطبةً قوية في مجلس يزيد، قال فيها:
“يا يزيد، أَتَظُنُّ أَنَّكَ إِذْ قَتَلْتَ أَهْلَ بَيْتِي وَاسْتَبِيحْتَ حُرْمَتِي أَنَّكَ تُخيفُني وَتُرْهِبُنِي؟ وَاللَّهِ مَا نِلْتَ مِنْ عِزِّنَا وَلَكِنَّكَ نِلْتَ مِنْ أَنْفُسِكُمْ، وَضَيَّعْتَ آخِرَتَكُمْ، وَرَبِحْتَ مَصَائِبَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ”.
شهادته عليه السلام
استشهد الإمام السجاد مسموماً على يد سادس خلفاء بني أمية الوليد بن عبد الملك بالسم الذي دسه عامله على المدينة وفارق الحياة في 25 محرم سنة 95 للهجرة وله من العمر 57 سنة ودفن في البقيع إلى جانب قبر عمّه الحسن بن علي رضوان الله عليهما.
المراجع والمصادر :
1- تاريخ اليعقوبي -اليعقوبي
2- أعيان الشيعة -السيد محسن الأمين
3- مروج الذهب
4- الأمالي -الشيخ الطوسي
وغيرها من المصادر التاريخية المعتبرة.