عندما تتحدث دماء الشهداء… صنعاء تُعلن موقفها

يمانيون| بقلم: أحمد إبراهيم المنصور – تحليل سياسي
استشهاد رئيس حكومة التغيير والبناء ورفاقه لم يكن محطة عابرة في خارطة السياسة اليمنية، إنما هو بمثابة نقلة مفصلية أُعلن من خلالها أن الصفحات تُكتَب بالدم وليس بالجلوس خلف الكتب. حين ذُكر اسم رئيس الوزراء لأول مرة بعد الخبر، لم يكن مكبراً بشعارات أو وكالات، وإنما كان عبر توثيق مباشر، رفض كل خطاب رسمي رتيب، واضعاً المشهد كله على خط تماس سياسي موثق إلى جانب نفسيّاً ملتزم؛ لأن كلمة السيد القائد التي تلت بكلماتها كانت الردّ الأقوى.

في اللحظة نفسها، صارت الكلمة السياسية صارخة: خلاصة موقف لا تقبل الابتزاز ولا المحايد. “الدم الطاهر ما يضيع هدر”، هكذا عبّر – دون تكلف وبوضوحٍ جلي – عن منطق المقاومة: أن الدم لا يُدفن أو يُطوى، إنما يتم تحويله إلى قوة سياسية متحققة. ما كان يمكن أن يظل الحدث مجرد حادث، فقد قُلب إلى نقطة ارتكاز. هذا هو الانحياز الحقيقي: أن تجعل من دم الشهداء مطلباً ووعياً وتخطيطاً استراتيجيّاً. وهنا، ينبثق الرابط بين صنعاء وغزة ليس على مستوى المشاعر فقط، وإنما على مستوى المساحة التي تبلور فيها المصيرية المشتركة.

في ذلك الوقت، كنت أستمع لصوت السيد القائد عبدالملك بدرالدين الحوثي، وكان كعادته محاطاً بالسكينة والحزم. وكلماته التي لم تكن خطاباً رسمياً بارداً، إذ بدت كأنها تنبض من وجع الفقد ومشاعل التحدي. كان يؤكد أن الدماء الطاهرة لا تذهب سدى، وأنها امتداد لمسيرة الجهاد التي لم تبدأ اليوم ولن تنتهي غداً. وأنا أستمع إليه، خطر ببالي مشهد قديم من أرشيف الذاكرة؛ حين كنت أتابع تسجيلًا للإمام الخميني بعد اغتيال رئيس وزرائه محمد علي رجائي عام 1981، وكيف تحولت تلك الدماء إلى وقود ألهب مسيرة الثورة الإيرانية. المشهد ذاته يتكرر اليوم في صنعاء، كأن التاريخ يصرّ على تذكيرنا بأن الشهداء هم من يكتبون الفصول القادمة، لا السياسيون الجالسون على مقاعد الانتظار، وما كان إعلان السيد القائد إلا تأكيداً على أن اليمن اليوم، مع هذا الاستشهاد، يعيد رسم معالم الموقف، ليس فقط محلياً، وإنما في دائرة مقاومة أوسع تشمل غزة، الحاضنة التي تحفظ موقف صنعاء، كما تحفظ بيروت موقف إيران في ثمانينيات القرن الماضي.

هذا الربط بين الداخل والخارج ليس اعتباطياً. حين يتحدث القائد عن الصواريخ والطائرات المسيّرة والضغط البحري، فإنه يصوغ سياسة دفاعية تتجذر في تأكيد أن اليمن جزء من الذات المقاومة، وليس مجرد مضيف عرضي في المشهد. سؤال يُطرح: بماذا سيحسُب وكيف سيُقيّم من ينظر إلى الشرق الأوسط على أساس اتفاقات ووساطات لا ترتبط بصمود محور المقاومة؟ سيكتشف أن اليمن اليوم هو من أطلق ورقة جديدة في مواجهة الكيان الصهيوني.

في مدينة تصارع الجوع والحصار، يتحول الخبر الفجيعي إلى إعلان وجود. وها هي صنعاء – وسط دخان الحصار – تعلن أن الدم لا ينتهي بصفحة النعي، وإنما تبدأ منها مواقف. هذا ليس خطاباً أدبياً أو بهرجاً سياسياً، هو قرار: بالموقف، بالمقاومة، بالوفاء للقضية التي تربط بين الجغرافيا والروح. القارئ لن يرى هذا الكلام “خطاباً إعلامياً”، إنما سيرى لوحة تُقرأ فيها الجغرافيا كحركة دائمة، والموقف كواجب ثابت، والدم كمدخل لبناء موقف واضح.

العنوان لا يُختم بخطبة وفرادات إنشائية، إنما يُفتتح بوثيقة التحدي: هذا الاستشهاد لا يُمحى من ذاكرة الأمة، وسيبقى زخمه السياسي حيّاً. النقاش لم يعد عن خبر أو نعي، ولكنه عن موقع تحوّله إلى قرار يشق مجابهة الهيمنة، ويُضرب فيه عصف ذاكرتان تاريخيتان: القدس وغزة. وهنا تصبح الكلمة السياسية بحدّ ذاتها استشهاداً مكرّساً.

You might also like
WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com