21 سبتمبر .. الثورة التي مدت يدها للسلم والشراكة الوطنية

يمانيون | تقرير
في مسارات التاريخ السياسي للشعوب، قلّما تجتمع الثورة مع الحُكم، والنصر مع التسامح، والقوة مع الدعوة إلى الشراكة. فغالبًا ما تميل الثورات، بعد انتصارها، إلى فرض رؤيتها كأمر واقع، متكئة على لحظة التفوق لفرض الغلبة. لكن اليمن، في 21 سبتمبر 2014، خرج عن هذا المسار النمطي. لم تكن الثورة حينها مجرّد تمرّد عابر على سلطة فاسدة، بل كانت تعبيرًا عن نضج شعبي تراكمي، أعاد صياغة المشروع الوطني على قاعدة الاستقلال والسيادة، لا الانتقام أو التصفية.

في تلك اللحظة، انتصر الشعب، وسقطت مراكز النفوذ التقليدية، وظهرت هشاشة الدولة التي ظلت لعقود رهينة الفساد والارتهان الخارجي. ومع امتلاك الثورة زمام المبادرة، لم تسعَ إلى الإقصاء، بل بادرت إلى طرح اتفاق سياسي جامع، هو اتفاق السلم والشراكة الوطنية، بوصفه أرضية لبناء دولة تشاركية تمثل الجميع، وتُطلق مسارًا انتقاليًا جديدًا يتجاوز منطق الغلبة ويُعيد الاعتبار لإرادة اليمنيين.

غير أن هذا الاتفاق، الذي حمل في روحه مشروع دولة عادلة، لم يُكتب له أن يُنفّذ. منذ لحظة توقيعه، بدأ حصاره السياسي والإعلامي، لأن بعض القوى الداخلية المهزومة رأت فيه تهديدًا لمصالحها، فيما رأت فيه قوى خارجية — وعلى رأسها السعودية والولايات المتحدة — خطرًا على منظومة الهيمنة التي حكمت علاقتها باليمن طويلًا. وهكذا، وبدل أن يُمنح الاتفاق فرصة الحياة، حُوصِر حتى أُجهض، ليس عبر تفاوض، بل عبر عدوان عسكري مباشر استهدف ما مثّله الاتفاق من مشروع استقلال وطني، لا مجرد صيغة سياسية.

21 سبتمبر… الثورة ومشروع السلم والشراكة

في سياق تاريخي معقد، تميزت ثورة 21 سبتمبر 2014 في اليمن بكونها أكثر من مجرد انتفاضة شعبية على نظام استبدادي ومشروع فاسد، بل كانت إعلانًا شاملاً لإرادة شعب تجاوز مآسيه الطويلة وقرر أن يعيد بناء وطنه على أسس جديدة. هذه الثورة لم تكن لحظة انفجار عفوي، بل كانت تجسيدًا لوعي سياسي متقدم، وأداة لإعادة تعريف العلاقة بين الشعب والدولة، لتضع حداً لهيمنة الفساد والتدخلات الأجنبية التي استنزفت اليمن عقودًا. ومن رحم هذه الثورة خرج مشروع سياسي يحمل روحها وينقلها إلى الواقع، ألا وهو مشروع السلم والشراكة.

إن مشروع السلم والشراكة ليس وثيقة تفاهم عادية، بل هو تعبير صادق عن إرادة ثورة شعبية ناضجة تصبو إلى استعادة السيادة والكرامة، وتحقيق شراكة وطنية جامعة تتجاوز حدود الصراعات التقليدية، وتؤسس لدولة تحكمها قيم العدالة والحرية. المشروع يمثل محاولة جادة للخروج من دائرة النزاع والاقتتال، عبر التوافق على رؤية وطنية موحدة تعكس تطلعات كافة المكونات اليمنية. ورغم هذه القيمة الوطنية العميقة، فقد اصطدم المشروع منذ بداياته بحصار داخلي وخارجي مكثف، يعكس مخاوف قوى كانت تفضل استمرار اليمن تحت نفوذها وسيطرتها، مما يوضح أن نجاح هذا المشروع لا يرتبط فقط بإرادة اليمنيين، بل أيضًا بصراع على مصير الدولة نفسها.

قراءة في مضمون الاتفاق… السلم والشراكة كإرادة وطنية

مشروع دولة لا وثيقة
لم يكن اتفاق السلم والشراكة الوطنية مجرد ورقة سياسية موقعة تحت ضغط اللحظة، بل كان وثيقة تعبّر عن وعي ثوري ناضج، نقل الفعل الشعبي من ميادين الاحتجاج إلى طاولة البناء السياسي. وقد حمل هذا الاتفاق في جوهره ملامح دولة جديدة تُبنى على أنقاض دولة مهترئة أفسدتها عقود من التبعية والمحاصصة والارتهان للقرار الخارجي. ولأن الاتفاق صدر في لحظة تاريخية فارقة، جاءت بنوده لتعكس مطالب متراكمة لا لجماعة واحدة أو تيار محدد، بل لطيف واسع من الشعب اليمني الذي كان قد ملّ من النهب والفساد والتهميش والتدخلات الأجنبية.

حكومة كفاءات لا محاصصة
في أولى بنوده، جاء الاتفاق ليؤسس لحكومة كفاءات وطنية، تُشكل خلال فترة زمنية محددة، على أن تكون بعيدة عن المحاصصات الحزبية التي أفسدت الحكومات السابقة، وشتّتت السلطة بين الولاءات والمصالح. لم يكن المقصود أن تُشارك كل الأطراف لمجرد الترضية السياسية، بل أن تتموضع الكفاءة معيارًا وحيدًا للمسؤولية، في دلالة واضحة على أن الثورة أرادت إغلاق باب التوريث السياسي والتقاسم المناطقي الذي ظل يحكم البلاد لعقود.

دعم مطالب الناس المعيشية
وتجاوبًا مع المعاناة الشعبية التي فجّرت الثورة، نص الاتفاق على معالجة قرار رفع أسعار المشتقات النفطية، وهو القرار الذي كان بمثابة القشة التي قصمت ظهر المواطن اليمني، وحرك الشارع في لحظة اقتصادية خانقة. لم يكن تعديل القرار مجرد إجراء اقتصادي، بل تعبير عن التحام الثورة بقضايا الناس، وعن وعي اقتصادي يرفض السياسات المفروضة من الخارج تحت مسميات الإصلاح، وهي في حقيقتها وصفات فقر وتبعية.

شراكة وطنية شاملة
ومن منطلق استيعاب الجميع، أشار الاتفاق إلى ضرورة تمكين مختلف المكونات السياسية من الحضور الفاعل في مؤسسات الدولة ومؤتمر الحوار، بعيدًا عن سياسة الإقصاء أو تهميش قوى ما بعد الثورة. لقد مثّل هذا التوجه تحوّلًا جوهريًا في الحياة السياسية اليمنية، حيث لم تعد السلطة حكرًا على حزب أو تحالف تقليدي، بل مشروع شراكة حقيقية تُبنى على قاعدة التمثيل العادل لكل من ساهم في صناعة اللحظة الوطنية.

تنفيذ مخرجات الحوار الوطني
كما شدد الاتفاق على استكمال تنفيذ مخرجات الحوار الوطني، مؤكدًا في الوقت ذاته على أهمية معالجة الملفات الحساسة، وعلى رأسها القضية الجنوبية والعدالة الانتقالية، بما يحفظ كرامة الضحايا ويعيد صياغة العلاقة بين المركز والأطراف. كان ذلك بمثابة إعادة الاعتبار لمشروع الحوار لا القفز عليه، وتصحيحًا للمسار لا قطيعة معه، إذ لم تكن الثورة انقلابًا على المخرجات، بل محاولة لتفعيلها دون انتقائية.

إعادة هيكلة الجيش والأمن
أما في ملف الجيش والأمن، فطرح الاتفاق رؤية لإعادة هيكلة المؤسستين على أسس وطنية، تنهض على الكفاءة والولاء للوطن، لا للقيادات أو الأحزاب أو المناطق. هذه الرؤية شكّلت تهديدًا مباشرًا لبنية الدولة العميقة التي كانت تحتكر السلاح وتستخدمه لحماية مصالحها، لا لحماية الشعب. وقد سعت الثورة عبر هذا الاتفاق إلى نزع الطابع الشخصي عن أدوات القوة، وتأسيس جيش يحمي الجميع، لا جيش لحماية السلطة.

محاربة الفساد بجدية
ومن ناحية مبدئية، أكد الاتفاق على محاربة الفساد، وتفعيل أجهزة الرقابة والمحاسبة، وفتح ملفات النهب العام الذي طوى عشرات السنين من تاريخ اليمن. لم تكن هذه مجرد شعارات، بل بند صريح أراد أن يبدأ عملية تنظيف شاملة للمؤسسات من أمراء الفساد الذين شكلوا عصب الدولة السابقة، والتي لم تكن سوى واجهة لتوزيع الثروة بين نخبة قليلة، بينما غرق الشعب في الفقر والحرمان.

استعادة الدولة المنهارة
وتضمن الاتفاق كذلك دعوة واضحة لتطبيع الحياة العامة، وعودة الدولة إلى مؤسساتها، وحماية الممتلكات العامة والخاصة، وهي إشارة مباشرة إلى أن الثورة لم تكن تبحث عن بديل للدولة، بل عن استعادة الدولة التي غابت، وترميم ما تهدّم من مؤسساتها بسبب الإهمال والانهيار. ومن المهم التذكير بأن اللجان الثورية حينها كانت تقوم بدور الحماية، لا الهدم، وتحفظ الممتلكات في وقت فرّ فيه الكثير من المسؤولين وتركوا فراغًا أرادت الثورة أن تملأه بعقلانية ومسؤولية.

استقلال في العلاقات الخارجية
وفي بُعده الخارجي، أكد الاتفاق على احترام علاقات اليمن مع المجتمع الدولي، شريطة أن تقوم على أساس السيادة والندية والمصالح المشتركة. لم يكن اليمني الثائر يطلب القطيعة مع العالم، بل التحرر من التبعية. وهذا البند تحديدًا كان أحد أكثر البنود استفزازًا للقوى التي رأت في اليمن ساحة دائمة للنفوذ. فالدعوة لبناء علاقات متوازنة كانت إعلان تمرد على معادلات الاستضعاف، وهذا ما جعل الاتفاق هدفًا مباشرًا للإجهاض منذ ساعاته الأولى.

مشروع قابل للحياة
كل تلك البنود، التي صيغت بدقة وعكست نضجًا سياسيًا متقدمًا، كانت تمثل ملامح مشروع وطني قابل للحياة، لو أُعطي فرصة التنفيذ. لكنها — ورغم ما حملته من معاني التسامح والشراكة — قُوبلت بحرب سياسية وإعلامية شعواء، ثم عسكرية، لأن الثورة بهذا الاتفاق تحوّلت من مجرد حالة احتجاجية إلى مشروع دولة. ولهذا السبب، لم يكن الأمر مسألة خلاف داخلي بين أطراف يمنية، بل صراع إقليمي ودولي على مستقبل اليمن وهويته.

لقد أدركت قوى النفوذ في الداخل، ومعها رعاتها في الخارج، أن تطبيق هذا الاتفاق يعني نهاية حقبة الوصاية، وقيام دولة ذات قرار مستقل، ومؤسسات تعمل لمصلحة الشعب لا مراكز النفوذ. ولذلك، لم يكن أمامها إلا خيار الإجهاز عليه، وتحويل مسار البلد من الشراكة إلى العدوان، ومن مشروع البناء إلى مشروع الحصار والتدمير. ومع ذلك، فإن مضامين هذا الاتفاق لم تمت، بل بقيت حيّة في الذاكرة الوطنية، لأنها تمثل ما كان يجب أن يكون، وما لا يزال ممكنًا أن يتحقق، حين تتوفر الإرادة السياسية الحرة.

إجهاض اتفاق السلم والشراكة… المؤامرة على مشروع الدولة المستقلة
بعد توقيع اتفاق السلم والشراكة الوطنية، لم تمضِ سوى أيام قليلة حتى بدأت تتكشف ملامح مؤامرة واسعة النطاق، هدفها الأساسي تقويض هذا المشروع الوطني الجامع. فقد أيقنت قوى الهيمنة الدولية، وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية والسعودية، أن الاتفاق يعكس توجهًا جديدًا في اليمن يهدد منظومة الوصاية التقليدية ويؤسس لاستقلال حقيقي في القرار السياسي، وهو ما اعتبرته هذه القوى خطرًا على مصالحها ونفوذها الاستراتيجي.

لم يكن رفض هذه القوى للاتفاق بسبب بنوده أو تفاصيله، بل بسبب روحه ومضمونه: إنهاء الارتهان، بناء شراكة وطنية، واستعادة القرار اليمني من الخارج. لذا، لم تتجه هذه القوى إلى ممارسة الضغوط أو التفاوض، بل لجأت إلى إجهاض الاتفاق بالقوة، عبر دفع الأدوات المحلية إلى التنصل من التزاماتها، ثم فرض عدوان عسكري مباشر على اليمن تحت ذرائع زائفة، في محاولة لإسقاط الثورة وإحراق مشروعها السياسي.

كان واضحًا أن المؤامرة لم تستهدف فقط تعطيل المسار السياسي، بل ضرب الفكرة من أساسها. فقد رافق العدوان حملة شاملة على كل مكونات الدولة: تدمير البنية التحتية، استهداف المؤسسات، تمزيق النسيج الاجتماعي، وخلق بيئة فوضى تخدم مصالح الخارج وتمنع أي نهوض يمني مستقل.

لقد تم إجهاض الاتفاق لا لأنه كان ضعيفًا، بل لأنه كان قويًا في معناه السياسي، ويمثل تهديدًا حقيقيًا لعقود من الوصاية. وهذا الإجهاض لم يكن نهاية المشروع، بل بداية لمرحلة جديدة من الصراع بين إرادة التحرر الوطنية، وقوى الوصاية والاستكبار التي لا تريد لليمن أن يكون سيد قراره.

اتفاق السلم والشراكة… مشروع لم يُنفذ لكنه لم يمت
اتفاق السلم والشراكة الوطنية لم يكن وثيقة سياسية عابرة، بل كان مشروعًا متكاملًا لبناء الدولة اليمنية على أسس من السيادة، الشراكة، والاستقلال الوطني. ورغم أنه لم يُمنح فرصة التنفيذ بفعل التدخلات الخارجية والمؤامرات المدبرة، إلا أنه لم يسقط ولم يمت، بل بقي شاهدًا حيًا على لحظة نضج سياسي وثوري فريدة في تاريخ اليمن.

الإجهاض الذي تعرض له الاتفاق لم يكن دليل فشل، بل دليل على خطورته على قوى الهيمنة، التي رأت فيه بداية مرحلة جديدة من الوعي الشعبي، لا يمكن ضبطها بأدوات السيطرة التقليدية. لقد أثبتت الثورة، من خلال هذا الاتفاق، أنها لم تكن تسعى للانتقام أو الإقصاء، بل كانت تسعى إلى بناء وطن يتسع لجميع أبنائه دون استثناء.

إن الاتفاق، رغم ما تعرض له من مؤامرات، لا يزال يمثل مرجعية وطنية لكل من ينشد سلامًا حقيقيًا، لا يقوم على التبعية، بل على الاحترام المتبادل والشراكة العادلة. واليوم، تعود الحاجة لاستحضار روحه ومبادئه، ليس بوصفه ماضٍ ضائع، بل باعتباره مشروعًا مؤجلاً ما زال بإمكان اليمنيين إحياؤه وتحويله إلى واقع، إذا ما توفر لهم قرار مستقل وإرادة وطنية جامعة.

وهكذا، فإن اتفاق السلم والشراكة يظل عنوانًا بارزًا لحكمة الثورة، ونضجها، وإرادتها في البناء لا الهدم، وهو دعوة متجددة لكل اليمنيين ليمضوا نحو المستقبل على قاعدة وطنية، بعيدًا عن الوصاية، ورافعين راية الاستقلال والكرامة والسلام العادل.

المصدر : موقع 21 سبتمبر

You might also like
WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com