Herelllllan
herelllllan2

الإنزال الجوي في غزة.. فشل أخلاقي واستعراضي أمام جريمة إبادة مستمرة

يمانيون | تقرير تحليلي
منذ أشهر، يعيش قطاع غزة واحدة من أكثر الكوارث الإنسانية بشاعة في التاريخ الحديث، حيث يُحاصر ملايين المدنيين، ويُمنعون من الغذاء والدواء والماء، في مشهد متواصل من الترويع والتجويع الجماعي.

وفي خضم هذه المأساة، لجأت بعض الدول الغربية ومعها كيانات عربية إلى استخدام ما يسمى بـ”الإنزال الجوي للمساعدات” كوسيلة استعراضية للإغاثة، بدلاً من الضغط الجاد لفتح المعابر البرية التي تشكّل الشريان الحقيقي للحياة في غزة.

ومع اتساع رقعة الموت جوعًا ومرضًا، يتبيّن أن هذا الخيار لا يُغيث ولا يُداوي، بل يكرّس الحصار ويمنح الاحتلال شرعية إضافية في جريمته الممتدة.

الإنزال الجوي… محاولة ترويجية لذر الرماد في العيون
بداية عام 2025، بدأت الولايات المتحدة وعدد من الدول الأوروبية، ومعها أطراف عربية، بتنفيذ عمليات إسقاط للمساعدات الغذائية والطبية عبر الطائرات، فوق مناطق شمال غزة وجنوبها. ورغم الترويج الإعلامي الكثيف لتلك الخطوة، إلا أن النتائج على الأرض كانت كارثية.

المنظمات الدولية، وعلى رأسها برنامج الأغذية العالمي، ومنظمة الصحة العالمية، ومنظمة أوكسفام، ومكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (OCHA)، أكدت في تقارير متعددة أن الإنزال الجوي لا يلبي سوى نسبة ضئيلة جدًا من الاحتياجات اليومية، ولا يضمن وصول الإمدادات إلى المحتاجين، بل يؤدي في أحيان كثيرة إلى مقتل المدنيين نتيجة سقوط الطرود العشوائي أو تدافع الجائعين نحو مناطق الإسقاط.

كما بيّنت التقارير أن الإنزال لا يتجاوز كونه استعراضًا سياسيًا لدول امتنعت عن استخدام وسائل الضغط الفعالة على العدو الصهيوني، واختارت المشاركة في مشهد “إنقاذ تلفزيوني” يُسوّق للعالم كحل إنساني، في حين أنه يخدم سياسة تقويض أي تحرك دولي جاد لكسر الحصار.

الفشل الميداني والكارثة الإنسانية المتواصلة
وفق بيانات المنظمات الإنسانية، فإن الإنزال الجوي في فبراير ومارس 2025 أدى إلى وقوع عشرات القتلى والمصابين، غالبيتهم من الأطفال، بسبب التدافع أو سقوط الحاويات على رؤوس المدنيين.

وأظهرت الصور ومقاطع الفيديو التي وثقتها وكالات الأنباء المحلية والدولية، مشاهد مروّعة لجثث متفحمة تحت الطرود، وآباء يركضون بجنون لإنقاذ أبنائهم من الموت جوعًا أو سحقًا.

أكثر من 60% من المساعدات التي أُسقطت عبر الجو لم تصل إلى وجهتها، إما لأنها وقعت في البحر، أو في مناطق خاضعة لسيطرة الاحتلال، أو تم الاستيلاء عليها من قبل عصابات أو جهات غير منظمة.

كما أن المساعدات نفسها كانت محدودة الكمّ والنوع، إذ لم تحوِ إلا على علب طعام أو حليب أطفال أو مياه، دون أي بنية تنظيمية لتوزيعها.

موقف المنظمات الأممية… الإدانة دون حلول
في بيانات متكررة صدرت عن كبار مسؤولي الإغاثة الأممية، وعلى رأسهم مارتن غريفيث، وقيادات الصليب الأحمر، واليونيسف، وبرنامج الغذاء العالمي، تم التشديد على أن الإنزال الجوي “لا يمكن أن يكون بديلاً عن الممرات الإنسانية البرية”، وأن “الوسيلة الوحيدة لحل الكارثة هي فتح المعابر فوراً دون قيد أو شرط”.

كما أكدت تلك المنظمات أن استمرار الحصار يرقى إلى “جريمة إبادة جماعية مكتملة الأركان”، وأن العالم يتواطأ بالصمت حين يترك ملايين البشر لمواجهة الموت البطيء.

 الغياب العربي والإسلامي… خيانة للمسؤولية الدينية والتاريخية
لم يقتصر فشل الرد الدولي على القوى الغربية، بل شمل أيضًا الأنظمة العربية والإسلامية التي اكتفت بالشجب أو المشاركة في الاستعراض الجوي.

فقد غابت أي مبادرة حقيقية من منظمة التعاون الإسلامي أو الجامعة العربية للضغط أو حتى التلويح بإجراءات دبلوماسية أو اقتصادية على كيان الاحتلال.

إن استمرار هذا الغياب لا يهدد فقط مستقبل الشعب الفلسطيني، بل يشكّل خطرًا وجوديًا على الوجدان العربي والإسلامي الذي ما يزال عاجزًا عن إنتاج موقف موحّد أمام هذه الجريمة التاريخية. ويزداد الوضع قتامة مع تنامي شعور الفلسطينيين بأنهم تُركوا وحيدين في معركة الإبادة.

 بين التجويع الممنهج والتفريغ الديمغرافي
سياسة الاحتلال القائمة على التجويع الممنهج لم تكن عشوائية، بل هي أداة استراتيجية للتطهير العرقي التدريجي.. فمن خلال الحصار، يراهن العدو الصهيوني على إرغام مئات آلاف الفلسطينيين على النزوح خارج القطاع، أو القبول بحلول كارثية تفرضها قوى الأمر الواقع في الإقليم.

وقد حذّرت منظمات حقوق الإنسان من أن “التجويع القاتل” في غزة يُستخدم كسلاح حرب متعمد، وأن الإنزال الجوي يشكّل ورقة تبرئة وهمية تُعفي المجرم من جرائمه، وتُسوّق للكارثة كحدث طبيعي يتطلب إسقاط طرود، لا تحركًا سياسيًا أو قانونيًا أو عسكريًا.

ختاماً 
ما يحدث في غزة اليوم لا يمكن فصله عن التحولات العميقة في النظام الدولي، ولا عن استقالة الضمير العالمي من مسؤولياته الأخلاقية.. فالعالم يشاهد جريمة إبادة جماعية تبثها الشاشات على الهواء، ويكتفي بإسقاط علب غذاء من السماء، وكأن أرواح الفلسطينيين لا تستحق سوى “الفتات الطائر”.

الإنزال الجوي ليس فقط فشلًا تقنيًا، بل هو أيضًا تغطية سياسية لجرائم الاحتلال، وورقة تواطؤ ناعمة تشارك فيها الدول التي تدّعي الإنسانية، بينما تُشرعن الحصار وتبرّر استمرار المجزرة.. وحده الضغط الشعبي، والمقاومة الشاملة، والتحرك القانوني والسياسي المنظّم، يمكن أن يغيّر المعادلة ويوقف طاحونة الموت.

وفي هذا السياق، تُطرح مسؤوليات كبيرة على عاتق الشعوب الحرة، والمنظمات الثورية، والعلماء والمثقفين، لتحويل الغضب إلى فعل، والاستنكار إلى قرار، والاستغاثة إلى مواجهة، لأن ما يُرتكب في غزة اليوم هو اختبار أخلاقي للبشرية جمعاء، وعلى التاريخ أن يسجّل من وقف ضد المجزرة، ومن ساندها بالصمت أو بالحاويات المتساقطة من السماء.

You might also like
WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com