مفاهيم المسنون بين الغرَّام وغرَّامه في القبيلة أو المغرم الواحد (الضبط المجتمعي) الجزء 5

يمانيون| أعد المادة للنشر: محسن علي

يعلب “الضبط المجتمعي” وفق مفهوم المسنون في العرف القبلي دوراً أساسياً في أوساط القبائل التي عادة ما تحدث فيها نزاعات أو خلافات تؤدي إلى حروب واقتتال سواء على مستوى البدن داخل القرية أو الأسر, أو على مستوى الأفراد بصورة شخصية بين غريم وغريمه في قضايا مختلفة, وعند حدوث ذلك يتوجب على كل فرد داخل القبيلة أو المغرم القيام بـ(الفرع, والقرع, والضم) ويعني سرعة التدخل لإيقاف العراك أو الحرب والذي من شأنه منع الفوات (حقن الدماء وسلامة الأرواح) بين طرفي الشجار والخصومة, لضمان عدم تكرار القتال بينهما, وضمهم وإيصالهم إلى مرحلة تسمى (الوثر- أي القضاء العرفي) وهي اختيار محكم أو محكمين لفصل خلافهم وقضيتهم, حيث تعتبر هذه الإجراءات من أكبر المميزات لعملية الضبط الاجتماعي في العرف القبلي.

وهنا نستعرض في هذا الجزء الخامس.. مفاهيم المسنون في العرف القبلي على مستوى القبيلة (المغرم الواحد) بالإضافة إلى كيفية مراحل التدخل وخطوات إيقاف النزاع, والأسباب المسنونة لقطع الصحب وتفريد الصاحب من الغرامة والقبيلة في هذه السطور:

 

مفهوم المسنون في العرف القبلي:
هو الواجبات الملزمة عرفا بين الغرام وغرامه (الصاحب وصاحبه) على مستوى القبيلة أو الفرع, أو على مستوى المغرم الواحد, حسب ما تحدد في قواعد العرف القبلي الخاصة بالصحب والإخاء والغرم الغصاب.

المسنون العرفي على مستوى القبيلة (المغرم العام)
هو ما يجب القيام به على جميع أفراد وعقال ومشايخ القبيلة في إطار قبيلتهم حسب الغرم العام ,وقد سنت القواعد العرفية واجبات على أبناء القبيلة نوردها كالتالي:
عند قيام حرب بين فرعين داخل القبيلة:
في حال نشب حرب بين فرع رئيسي وآخر داخل القبيلة, فيتوجب على كبير القوم وجميع المشايخ والعقال سرعة التدخل لوقف نشوب الحرب بين الأطراف المتصارعة, كما لا يجوز لبقية الفروع التعصب مع أحد أطراف النزاع.
ومن المسنون عرفا : أن يكون جميع أبناء القبيلة واسطة وفراعة قراعة لضبط أي طرف متعنت ومعوج.

الخطوات المطلوبة:
أول خطوة واجبة تقوم بها الوساطة هي: الوصول إلى المنطقة الفاصلة التي تتوسط ساحة الحرب, مع رفع رايات بيضاء التي تدل على أطراف النزاع بوجود وساطة , وتنبه بعدم الاعتداء عليها من أي طرف, ومن ثم يبدأ الدخول في الثلاث المراحل المسنونة وهي : الفرع, والقرع, والضم.
مرحلة الفرع:
بعد اجتماع الواسطة في المنطقة الفاصلة , تبدأ مرحلة الفرع والتي تعني : توزيع القوم من قبل المشايخ إلى فريقين, لغرض توجيه كل فريق إلى أرتاب, ومحاجي الأطراف المتحاربة, لإنزالهم من أرتابهم ومحاجيهم كي تتوقف الحرب, ومن المتعارف عليه في هذا الأمر أنه من الواجب بعد وصول الوساطة توقف طرفي الاقتتال احتراما واجلالا لحضور الوساطة وتمسى هذه المرحلة عرفا (مرحلة الفرع بين المتحاربين).
مرحلة القرع:
في حال كان هناك أي رتب أو طرف لم يتوقف عن إطلاق النار, وإخلاء موقعه, رغم وصول الوساطة إلى الارتاب, فإن من واجب الوساطة قرعه’ ويعني: استخدام القوة من قبل أفراد الوساطة حتى يتوقف, وبعد إنزال طرفي القتال من جميع الارتاب, تدخل الوساطة فورا في المرحلة الثالثة التي هي: مرحلة الضم.
مرحلة الضم:
في هذه المرحلة تبدأ الوساطة بعقد اجتماع ومشاورات في نفس المنطقة الفاصلة بوجود طرفي النزاع أو من يمثلهم من مشايخهم وعقالهم , حيث يكون كبار الوساطة من مشايخ ومراغة العرف, كونهم المخولين بفرض ما يلزم على طرفي النزاع بعد السماع من طرفي النزاع وعقد الوساطة لمشاورة سرية قصيرة الزمن تسمى (البرزة) لتدارس ما سيتم فرضه, ثم عودتهم إلى مجمع القوم.

المفروضات المسنونة في حالات الحروب:
فرض بنادق فروع الدم إذا كان هناك (إصابات) , وأيضا فرض بنادق ضم على الطرفين المتخاصمين لضمان عدم تكرار المواجهة مرة أخرى , وحددت القواعد بنادق الضم بحسب الوساطة فقد تفرض أحيانا, 10 بنادق, أو عشرين, وقد يزيد العدد.
وبعد تسمية المحكمين يتم صياغة قاعدة تحكيم عرفية من قبل الوساطة يوقع عليها الأطراف, ومن ثم تنتقل مسؤولية الموقف إلى المحكم والمحكمين, ولهم فرضهم من ثقل للعدال, وطلب الضمان اللازم, وأخذ الدعاوي والردود والبراهين, ومن ثم إصدار الحكم وتنفيذه.

التدخل مسؤولية مجتمعية
لإيقاف حرب بين طرفين, لا يقتصر هذا فقط على القبيلة التي تنتمي إليها أطراف الصراع, ولكن يعد هذا واجب قبلي على كل القبل المجاورة وغير المجاورة وهم القبائل أهل الشيمة والحمية, غير أن الواجب الأكبر يقع على كل أبناء القبيلة نفسها في مثل هذا.
كما ينطبق هذا الواجب على كل القبل والقبائل من باب الواجب الديني والقبلي سرعة التدخل لإخماد نار الحرب ويكون الواجب الأول على المجاورين لتلك القبل المتنازعة.

عند قيام حرب بين قريتين داخل فرع القبيلة:
في هذه الحالة يتوجب على شيخ ضمان الفرع وبقية المشايخ والعقال سرعة التدخل ومن المسنون عرفا ’ أن يكون جميع أبناء قرى الفرع في المقدمة واسطة وفراعة قراعة لضبط أي فرع متعنت, كما لا يعفى بقية فروع القبيلة من التدخل, كوساطة إلى جانب قرى الفرع الحاصل فيها النزاع.
مراحل وخطوات إيقاف النزاع:
لا تختلف عن الخطوات التي نشب فيها النزاع بين فرعين رئيسيين داخل القبيلة, إذا لا يجوز فيها التعصب عرفا وشرعا , إلا في حالة واحدة وهي التي تبيح التعصب مع أحد طرفي الخصومة ضد الطرف الآخر, وذلك عندما يبغى طرف على آخر, بمعنى : لم يستن الباغي لما هو صائب, مثل قيامه بالتعنت والإصرار على هدر الدماء, بمواصلة الحرب والكسر في وجيه كل الوساطات التي تأتي لوقف النزاع, وعدم استجابته لأي مطلب مسنون عرفا لازم عليه: ومثل هذا الطرف يسمى : غاويا وباغيا.
الغوى:
هو كلما يخالف السنن المتعارف عليها بين القبائل, ففي حال وصل ذلك الطرف إلى التكبر والتجبر والغرور (الباغي) فالمسنون عرفا: هو أن تقف القبائل كلها إلى جانب الطرف المظلوم الماشي في كل صائب, وتعلن الحرب ضد الباغي, حتى يعود إلى صوابه ويخضع للحق , وبعد إعلان خضوعه يتم الفصل بين الطرفين بالعدل دون تحيز, وهنا وجه للمطابقة بين مبادئ وأسس شريعتنا الإسلامية الغراء وبين قواعد العرف حيث يؤكد ذلك الله تعالى في قوله ( وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيئ إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين).

 

المسنون بين الغرام وغرامه (مغرم الطحين)
غرامة الطحين: هم أبناء المغرم الواحد, مثل أن يكونوا أبناء قرية واحدة أو محال متقاربة داخل فرع القبيلة تجمعهم طوارف الحد والبلد والساحة, وغرم الدم والمال ملزم على مستوى مغرمهم المصغر وهؤلاء يسمون (غرامة الطحين).
يكون المسنون بين الغرام وغرامه في مغرم الطحين (المصغر) في حال حصلت الفتن والخلافات على النحو التالي:
الفرع والقرع والضم:
يتوجب على جميع الغرامة في هذا الشأن سلب سلاح المتعنتين جبرا وبالقوة سواء كان سلاحنا ناريا أو سلاح أبيض ويبقى بيد أحد الحاضرين من الغرامة, ولا يجوز لمن بيده طروح الضم إرجاعها للغرماء مطلقا’ إذ تكمن أهمية هذا الموضوع أن بقاء السلاح ردع وردء للفتنة وضمان لعدم تكرار العراك بين الأطراف.
ولطروح الضم حصانة عرفية قبلية, يجرم اختراقها من الأطراف وأي اعتداء يحصل من طرف على طرف آخر بوجود الضم , يعتبر (عيب أصفر) يحكم فيه بالمربع, وفي حال افتعال (إصابات) أثناء الفتنة في أحد الأطراف يجب على الغرامة الحاضرين (الفراعة) فرض فرع الدم للمفعول من الطرف الجاني.
فرع الدم:
هو قطعة من السلاح الشخصي أو أكثر أو ما في حكمه مثل ( الجنبية) وهذا الفرع يعني عرفا : الاعتراف بالجناية من الجاني.
عدال الصائب:
العدال: هو طروحات من السلاح الشخصي وما في حكمه مثل : الجنابي الثمينة, السيارات, والتي يتم وضعها من طرفي الخصومة إلى يد طرف محايد لغرض فصل قضيتهم.
وفي هذا الحال يتوجب على كل من لديه دعوى حقوقية أو جنائية ضد طرف آخر, وأراد استرجاع حقه, عبر القضاء العرفي القبلي, فإن المسنون عليه في ذلك هو: البدء بوضع طروحات السلاح وتسمى (العدال) حيث يتم طرحها إلى طرف ثالث محايد من أبناء المغرم المشهود له بالنزاهة والصدق والأمانة والحريص على مجتمعه, ليتم بموجبه إبلاغ غريمه للنصف والمماثلة بطرح عدال ليكونا (مدعى ومدعا عليه) وفي مثل هذه الحالة أن قوم الغريم بالإنصاف فورا, وإذا تعصى في مقابلة غريمه أي: رفض اطروحات العدال فإنه يسمى عرفا (كاسر الصائب) وعلى إثر ذلك تقام عليه أحكام مغلظة عند القبائل وما يسمى بالعيب الأصفر.
ومما نصت عليه قواعد العرف القبلي في وجوب النصف بطروحات العدال على الغرماء هو (العدالة غصابه والحكم بالرضاء) وفي حال حصول خلافات على مطالب حقوقية نصت القاعدة العرفية على أن ( من ادعاك في ثوبك انصفته) .

ثالثا: القطيعة (تفريد الصاحب)
المفهوم العرفي للقطيعة:
هي قطع كل روابط المخوة والصحب والشراكة الإلزامية الغصابة بين الغرام وغرامته ليصبح الشخص المتفرد (المقطوع ) محروما من كل الحقوق الواجبة على مجتمعه نحوه, كما أنها نوع من أنواع العقاب العرفي الذي تتخذه القبائل ضد كل شخص متنصل ومتهرب من واجباته ومستهترا بمسؤوليته المجتمعية تجاه قبيلته أو مغرمه .

الأسباب المسنونة لقطع الصحب:
للقطيعة أسباب عرفية جوهرية توجب قطع علاقة الصحب والمخوة والمغرم بين الغرام وغرامته على النحو التالي:
الكيل عن الصاحب والغرام:
ويعني التسريح والتسليم لما على الصاحب الغرام من حجج وحقوق للآخرين, فعند الكيل لثلاث مرات من قبل أصحابه وغرامته في قضايا خاصة به لا تتصل بنظام المغرم الجماعي بحسب الطوارف الملزمة, فمن واجبات الصحب المسنونة : رد الصاحب عن اعوجاجه على غيره , فإذا أبى واستكبر ولم يرجع اعوجاجه فأصحابه وغرامته ملزمون بأن يكيلوا عنه مرة واثنتين وثلاث, وإذا لم يقم بما يصوب عليه تجاه أصحابه من وفاء وتسديد ما كالوا عنه فلهم الحق في إعلان قطيعته وتفريده من القبيلة أو الغرم وهذه تعد الصورة الأولى.
إذا رفض الغرام تسليم من غليه من غرم:
في حال لم يقم الغرام بدفع ما عليه من أغرام تم فرضها في قضايا مشتركة وطوارف ملزمة وبقي مماطلا في تسليم ما عليه, فيحق لأصحابه وغرامته قطعه.
إذا قام بإطلاق وإرجاع الضم أو العدال للغرماء:
يتوجب على القبيلة قطع هذا الغرام في حال قيامه بإرجاع الضم أو العدال’ كون طروحات العدال لا تطلق للغرماء قبل حل خلافهم حتى وإن أدى بقائها لديه إلى وقوع ضحايا, إذ لا يصح إرجاعها للأطراف إلا بعد سد خلافهم .
كيفية تفاصيل إعلان القطيعة للصاحب:
عند توفر أحد الأسباب الموجبة للقطيعة, فلا يكون قطعه ولا يعتمد عرفا : بمجرد الكلام الشفهي , وإنما يلزم على أصحابه وغرامته : صياغة مرقوم خطي يوضح فيها الأسباب التي أوجبت القطيعة والتفريد, والإجراءات المتخذة التي تم اتخاذها حيال ذلك , مع التوقيع عليها من كل الغرامة وإشهار القطيعة أمام الآخرين من القبائل ولذلك صورتان على النحو التالي:
الصورة الأولى:
إذا كان تفريد ذلك الشخص من القبيلة على المستوى الأرفع بمعنى : قطعه من القبيلة بكاملها, فيتم الإشهار بواسطة (المبلغ-المعروف بالدوشان) بإبلاغ القبائل الأخرى المجاورة بما تم اتخاذه , وهو قطع فلان بن فلان من القبيلة بمسماها , ويعلن ذلك في مساريخ تلك القبل.
الصورة الثانية:
إذا كان تفريد الشخص على المستوى الداخلي (فيتم الإشهار بواسطة (الدوشان) بإبلاغ القرى المجاورة بما تم اتخاذه وهو قطع فلان بن فلان من المغرم بمسماه ويعلن ذلك في ساحات تلك القرى, وبهذه الإجراءات يكون أبناء القبيلة قد أخرجوا انفسهم ووجيههم واخلو مسؤوليتهم أمام القبائل الأخرى, وبذلك يصبح الشخص المقطوع متحملا مسؤولية نفسه بنفسه .
المرجع: الفصل الخامس من كتاب قواعد العرف القبيل المسنونة والغصابة لقبائل اليمن, تأليف الشيخ صالح روضان.

You might also like
WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com