“المدعى القبلي”..ميزان العدالة لمنع الفوضى والشفرة الخفية التي تحكم الشعب اليمني “الجزء الـ14”
يمانيون/ محسن علي
حيث تتوارث الأجيال منظومة متكاملة من الأعراف والقيم في أعماق التقاليد المتوارثة في أوساط قبائل اليمن، يبرز مصطلح “المدعى” كأحد أهم الركائز التي تحفظ التوازن الاجتماعي وتصون الحقوق، في نظام قضائي متكامل له أصوله وقواعده الصارمة التي تضمن وصول الحقوق لأصحابها وتمنع الانزلاق نحو الفوضى والثأر، نستعرض وإياكم في هذا الجزء “الـرابع عشر” تفاصيل هذا العرف القبلي، وكشف آلياته الدقيقة وأنواعه المختلفة، وكيف يمثل شبكة أمان تحمي كرامة الفرد والقبيلة والمجتمع بشكل عام.
“المدعى”.. نظام الإشعار والردع في المجتمع القبلي
يعرّف “المدعى” في العرف القبلي بأنه الإجراء الذي يقوم به طرف تعرض لاعتداء أو خطأ يمس عرضه أو كرامته، حيث يتم إشعار الطرف المخطئ أو أقاربه بالواقعة للمطالبة بالوفاء بما يلزم عرفاً.
صيغ المدعى وأشكاله
تتخذ صيغة المدعى أشكالاً مختلفة، فقد تكون فردية مثل “أنا داعي وجهك”، أو (أنا داعي لك مدعى القبيلة) ، أو بصفة الجماعة (نحن داعين لكم مدعى القبيلة على ما جرى منك ، أو منكم ، أو من صاحبكم بذكر اسمه وكنيته) وهي بمثابة إعلان رسمي بوجود قضية تستدعي الحل.
ما الذي يتوجب بعد المدعى؟
يحظى المدعى بأهمية بالغة، إذ تقتضي التقاليد المسنونة أن يبادر الطرف المدعى عليه فوراً بـ “حجب المدعى”، وهو إجراء رمزي يتم عادةً بوضع قطعة سلاح شخصي كدليل على الامتثال للعرف والاستعداد لتصويب الخطأ، هذا الحجب لا يعني بالضرورة اعترافاً بالذنب، بل هو إقرار بسلطة العرف واستعداد للخضوع للحق حال ثبوته.
وتكمن خطورة هذا العرف في أن تجاهله، أو ما يسمى “جفر المدعى”، يعتبر تحدياً مباشراً للطرف المدعي وللقبيلة بأسرها، هذا التجاهل قد يدفع الطرف الداعي إلى إعلان حالة الطوارئ أو حتى الحرب، مما يؤدي إلى عواقب وخيمة، لذلك، يُنظر إلى “جافر المدعى” على أنه متسبب في الفتنة ويتحمل أحكاماً عرفية مغلظة نتيجة استهتاره بالتقاليد.
أنواع “المدعى”.. لكل قضية مقام ومقال
لا يأتي “المدعى” على شاكلة واحدة، بل يتدرج في شدته وقوته بناءً على جسامة الخطأ المرتكب، وقد صنف العرف القبلي المدعى إلى ثلاثة أنواع رئيسية:
مدعى بصفة النشد
وهو أقل الأنواع حدة، ويكون في العادة مكتوباً، يُستخدم في الأخطاء التي قد يكون لها مبرر ما، لكن الطرف المخطئ لم يتبع الإجراءات العرفية اللازمة، ويمنح هذا النوع المدعى عليه مهلة كافية للاستجابة وحجب المدعى.
مدعى القبيلة
يأتي هذا النوع في مرتبة أعلى من النشد، ويُستخدم عند وقوع اعتداء أو خطأ غير جسيم ولكن دون مبرر، ويجب حجبه في فترة زمنية قصيرة، وتجاهله يعرض “الجافر” لتحمل مسؤولية أي تداعيات قد تنتج عن ذلك.
المدعى الحار
هو أقوى وأخطر أنواع المدعى على الإطلاق، ويتم اللجوء إليه عند وقوع اعتداء جسيم دون وجه حق أو أي خلاف سابق، كما يُعتبر هذا المدعى “مستحلاً”، أي أنه لا يحتمل الصبر أو التأخير، ويجب حجبه خلال مدة أقصاها 24 ساعة من وصوله، وإن تجاهل “المدعى الحار” يبطل أي حق للمتجاهل إذا تعرض لأذى في عرضه أو دمه أو ماله من قبل الطرف المدعي، بل ويحمله أحكاماً مغلظة على أي ضرر يلحقه بالطرف الآخر.
دعوى “السرف”.. حين ينقلب الاتهام الباطل على صاحبه
في ميزان العدالة القبلية، لا مكان للاتهامات الجزافية التي تهدف إلى تشويه السمعة، وهنا يأتي دور “دعوى السرف”، وهو المفهوم الذي يصف الاتهام المباشر لشخص بارتكاب أفعال مشينة (كالسرقة أو الاعتداء) دون وجود أي دليل أو قرينة.
عقوبة اتهام الزور في دعوى السرف
فإذا اتهم شخص آخر زوراً، يتوجب على المتهم “بذل الذمة” (حلف اليمين) لإبطال الدعوى، وفي المقابل، يُلزم المدعي بوضع ضمان (طرح سلاح) لتسريح “حكم دعوى السرف” بعد أن يبرئ المتهم ساحته باليمين، والعقوبة في هذه الحالة رادعة، حيث ينص العرف على أن حكم السرف هو نفس الحكم الذي كان سيصدر على المتهم لو ثبتت صحة الدعوى.
لا تقل للسارق يا سارق إلا ويدك في حلقه
والغرض من هذا الحكم هو تأديب من يتهمون الناس بالباطل، وتؤكد ذلك القاعدة القبلية الشهيرة: “لا تقل للسارق يا سارق إلا ويدك في حلقه”، أي لا تتهم إلا بدليل قاطع.
القرائن العرفية التي تبطل إقامة حكم دعوى السرف
هناك خمس قرائن إذا أثبتها الطرف المدعي : أثناء توجيهه الاتهام على الطرف المدعى عليه في واقعة الحقت به اضرارا في عرضه أو دمه أو ماله : فأنها تلغي وتبطل على المتهم (الطرف المدعى عليه إقامة حكم دعوى السرف على الطرف المدعي ..
وإذا لم يثبت المدعي إحدى هذه القرائن : فإن عليه تحمل حكم دعوى السرف للمتهم : وهذه القرائن كالتالي :
وجود خصومة سابقة
من حق أي شخص أو طرف ، وقع عليه اعتداء في عرضه ، أو في دمه ، أو في ماله ، وكان المعتدي مجهولا : أن يوجه دعوى اتهام في ذلك على أي شخص ، أو طرف سبق له خصومة معه : بشرط إثبات قرينة الخصومة .
ويلزم على الطرف المدعى عليه : بذل الذمة (اليمين لإبطال دعوى المدعي فإن مضى المتهم في العهد (حلف اليمين) ، سقطت الدعوى، ولا يقام لأي طرف بعدها اي حق ، وإذا تراجع عن المضى في العهد، حمل الحكم العرفية اللازم في القضية فالخصومة قرينة عرفية تلغي ، وتبطل إقامة حكم دعوى السرف على المدعي .
الجوار في مكان الاعتداء
من حق أي شخص أو طرف ، وقع عليه اعتداء ، أو أضرار بأملاكه الخاصة ، وكان المعتدي مجهولا : أن يوجه دعوى اتهام في ذلك على أى شخص ، أو طرف تربطه معه علاقة المكان الذي حصل فيه الاعتداء : مثل: أن يكون للمتهم أرض زراعية وبيت ، وما إلى ذلك من الأملاك المتجاورة للطرفين ، أو المحيطة بمكان الاعتداء : بشرط أن تكون قرينة الجوار مثبتة من المدعى
ويلزم على الطرف المدعى عليه بذل الذمة (اليمين) ؛ لإبطال دعوى المدعي ، فأن مضى المتهم في العهد (حلف اليمين سقطت الدعوى ، ولا يقام لأي طرف بعدها أي حق ، وإذا تراجع عن المضي في العهد ، حمل الحكم العرفي اللازم في القضية .
فالتجاور في الأملاك قرينة عرفية ، تلغي وتبطل إقامة حكم دعوى السرف على المدعي .
وجود سوابق
من حق أي شخص أو طرف ، وقع عليه اعتداء ، أو أضرار في أملاكه الخاصة ، وكان المعتدي مجهولا : أن يوجه دعوى اتهام في ذلك على أي شخص ، أو طرف له سوابق في أفعال مشينة ، ومنكرة في المجتمع : بشرط إثبات قرينة السوابق .
ويتم على الطرف المدعى عليه بذل الذمة (اليمين) ؛ لإبطال دعوى المدعي ، فأن مضى المتهم في العهد حلف اليمين سقطت الدعوى ، ولا يقام لأي طرف بعدها أي حق ، وإذا تراجع عن الذمة ، حمل الحكم العرفي اللازم في القضية .
فالسوابق قرينة عرفية تلغي وتبطل إقامة حكم دعوى السرف على المدعى .
إثبات مرور
من حق أي شخص أو طرف، وقع عليه اعتداء ، أو أضرار بأملاكه الخاصة وكان المعتدي مجهولا : أن يوجه دعوى اتهام في ذلك على أى شخص أو طرف ثين مروره في المكان المعتدى فيه : بشرط إثبات قرينة مرور المتهم : قبل أو أثناء الاعتداء، ويلزم على الطرف المدعى عليه بذل الذمة (اليمين) : لإبطال دعوى المدعى ، فان مضى المتهم في العهد (حلف اليمين سقطت الدعوى ، ولا يقام لأى طرف بعدها أى حق ، وإذا تراجع عن الذمة ، حمل الحكم العرفي اللازم في القضية، فمرور المتهم من أو فى مكان الاعتداء قرينة عرفية ، تلغى وتبطل إقامة حكم دعوى السرف على المدعي .
تواجد المتهم في مكان الحادثة
من حق أي شخص أو طرف ، وقع عليه اعتداء ، أو أضرار بأملاكه الخاصة. وكان المعتدي مجهولا : أن يوجه دعوى اتهام في ذلك على أي شخص، أو طرف ثبت تواجده في المكان المعتدى فيه : بشرط إثبات قرينة تواجد المتهم : قبل أو أثناء الاعتداء .
ويلزم على الطرف المدعى عليه بذل الذمة (اليمين) ؛ لإبطال دعوى المدعي ، فأن مضى المتهم في العهد (حلف اليمين سقطت الدعوى ، ولا يقام لأي طرف بعدها أي حق ، وإذا تراجع عن الذمة ، حمل الحكم العرفي اللازم في القضية، فتواجد المتهم في مكان الاعتداء قرينة عرفية ، تلغي وتبطل إقامة حكم دعوى السرف على المدعي .
وكل هذه القرائن تمنح المدعي حق الاتهام دون أن يقع تحت طائلة حكم السرف.
*المرجع: كتاب قواعد العرف القبلي المسنونة والغصابة لقبائل اليمن- للشيخ صالح روضان.