اليمن بين محاولات الاحتواء .. وولادة ثورة 21 سبتمبر
يمانيون | تقرير تحليلي
شهد اليمن خلال العقدين الماضيين تحولات عاصفة، جعلته ساحة اختبار لمشاريع خارجية وإقليمية كبرى..فمن بلد مكبّل بالوصاية والهيمنة، إلى ميدان لتجارب المبادرات والتسويات، ثم إلى ثورة قلبت الموازين وأعادت صياغة مفهوم السيادة الوطنية.
اليمن قبل الربيع العربي: سجون ثلاثية خانقة
لم يكن اليمن قبل العام 2011 سوى بلد مكبّل بثلاثة سجون كبرى:
-
الهيمنة الأمريكية التي أحكمت قبضتها على القرار السياسي والأمني، عبر أدوات عسكرية واستخباراتية مباشرة، وغطاء سياسي يبرر بقاء النفوذ الأجنبي في الداخل.
-
الوصاية الخليجية السعودية التي رأت في اليمن ساحة خلفية ينبغي أن تظل ضعيفة ومجزأة، كي لا تتحول إلى قوة مستقلة تهدد التوازن الإقليمي القائم.
-
حكم العائلة الساعية للتوريث التي تعاملت مع البلاد كإقطاعية خاصة، واعتبرت السلطة ملكاً شخصياً قابلاً للتوارث، مستفيدة من غطاء إقليمي ودولي.
في ظل هذه المعادلة، جُمّد الاستقلال اليمني لعقود طويلة، بينما بقيت محاولات الإصلاح السياسي مجرد مبادرات محدودة تصطدم بجدار التبعية.
المعارضة: أقنعة للنظام الخارجي
المعارضة السياسية التي نشأت في تلك المرحلة لم تكن أكثر من انعكاس باهت للنظام، إذ اكتفت بالشعارات دون تقديم مشروع سيادي بديل.
تحولت إلى نسخة رديئة تُدار من نفس القوى الخارجية، ما جعلها عاجزة عن تمثيل تطلعات الشعب اليمني، الذي ظل يرى في نفسه جزءاً من تاريخ ثوري ثقيل لا يمكن ترويضه أو احتواؤه في مربعات سياسية ضيقة.
هذا الانسداد دفع البلاد إلى حالة ركود سياسي خانق، زاد من شعور الشارع بضرورة التغيير الشامل، لا الإصلاح الجزئي.
الربيع العربي والمبادرة الخليجية: إعادة إنتاج النظام
مع اندلاع ثورات الربيع العربي، وجدت واشنطن والرياض ومعهما عواصم أوروبية أن اليمن على وشك الانفجار.
لذلك سارعت إلى هندسة بديل سياسي لا يغيّر في جوهر الولاءات الخارجية، ولا يمسّ الوجود الأمريكي العسكري والأمني.
جاءت المبادرة الخليجية كصفقة سياسية، أعادت إنتاج النظام القديم بصيغة جديدة:
-
رأس النظام بقي حاضراً وإن تغير شكله.
-
الأحزاب المعارضة مُنحت هوامش سياسية مقابل التخلي عن أي مشروع استقلالي.
-
القرار السيادي ظل رهينة في يد الخارج، لا سيما واشنطن والرياض.
وبذلك، لم يكن الهدف إصلاح الوضع الداخلي، بل ضمان استمرار اليمن في موقع التابع داخل الاستراتيجية الأمريكية والخليجية، ولو بواجهة جديدة.
مشروع الخارج: من الوحدة إلى الأقاليم
ما رُوّج له على أنه حل سياسي، كان في الحقيقة مشروعاً للتفكيك والتقسيم. فاليمن الذي توحد عام 1990، جرى دفعه نحو صيغ جديدة مثل “الأقاليم” و”الفيدرالية”، وهي مشاريع لم تكن سوى أدوات لتقويض الدولة المركزية، وإبقاء البلد مفتتاً.
المسار السياسي هذا فتح الباب أمام إعادة هندسة اليمن ليبقى تحت السيطرة، وليظل ضعيفاً غير قادر على التأثير في معادلات المنطقة.
21 سبتمبر 2014: ولادة ثورة مختلفة
لكن كل تلك الترتيبات انهارت مع ثورة 21 سبتمبر 2014.
هذه الثورة لم تكن امتداداً للربيع العربي ولا نسخة منه، بل كانت ثورة سيادة في جوهرها، هدفها إزالة “العلة الأولى” المتمثلة بالتبعية للخارج.
ما ميز هذه الثورة عن غيرها:
-
مظلة شعبية واسعة ضمت مختلف الفئات.
-
حاضنة قبلية متماسكة لعبت دوراً محورياً في حماية القرار الثوري.
-
بنية عسكرية متجانسة مكنت الثورة من فرض نفسها كحقيقة ميدانية وسياسية.
بهذا، ولدت ثورة مختلفة جوهرياً عن احتجاجات 2011، إذ لم تطلب اعترافاً أوروبياً أو دعماً خارجياً، بل انطلقت من الإرادة الشعبية الخالصة.
سقوط الترتيبات الإقليمية والدولية
اندلاع الثورة مثّل زلزالاً سياسياً في المنطقة. واشنطن والرياض ومعهما العواصم الأوروبية فقدت السيطرة على المسار اليمني، وسقطت كل ترتيبات المبادرة الخليجية.
لم يعد ممكناً احتواء الوضع عبر تسويات سياسية أو صفقات انتقالية، لأن الثورة تجاوزت سقف المطالب الجزئية إلى مشروع تغيير شامل يعيد صياغة علاقة اليمن بالخارج، ويرسم خطاً فاصلاً بين مرحلة التبعية ومرحلة الاستقلال.
ما بعد الثورة: معادلة سيادة جديدة
منذ 21 سبتمبر، بدأ اليمن في رسم معادلة جديدة على مختلف المستويات:
-
سياسياً: لم يعد النظام السياسي أسيراً للوصاية الخليجية أو الهيمنة الأمريكية.
-
عسكرياً: تحولت القوى الثورية إلى طرف رئيسي يمتلك قرار الدفاع والسيادة.
-
ثقافياً وفكرياً: برز خطاب جديد يعيد الاعتبار للهوية اليمنية الجامعة، ويربطها بمشروع استقلالي شامل.
-
إقليمياً: فرض اليمن نفسه لاعباً مركزياً في معادلة الصراع مع واشنطن والكيان الصهيوني، عبر محور المقاومة.
خلاصة تحليلية
إن ما جرى في اليمن لم يكن مجرد فصل من فصول الربيع العربي، بل كان ولادة ثورة تاريخية جديدة.
ثورة أعادت تعريف معنى الاستقلال والسيادة في المنطقة، وأثبتت أن الإرادة الشعبية قادرة على إسقاط كل المشاريع الخارجية مهما تزيّنت بالمبادرات والصفقات.
لقد تحولت 21 سبتمبر إلى محطة فارقة، ليس في تاريخ اليمن فقط، بل في تاريخ المنطقة كلها، حيث أثبتت أن الشعوب التي تملك إرادة التحرر تستطيع قلب الموازين الدولية، وتجاوز كل محاولات الإجهاض والاحتواء.