اعتراف أوروبي بالدولة الفلسطينية.. نفاق استعماري جديد بلا أثر فعلي
يمانيون – تقرير تحليلي
خطوة بريطانيا الأخيرة، ومعها أستراليا وكندا والبرتغال وعدد من الدول الغربية، بالاعتراف الشكلي بالدولة الفلسطينية، تمثل مشهداً جديداً من مشاهد النفاق التاريخي في سجل القوى الاستعمارية.
فهي ذات الدول التي كانت أساس المأساة الفلسطينية منذ وعد بلفور عام 1917، حين فتحت بريطانيا أبواب فلسطين أمام الاستيطان اليهودي، لتتحول لاحقاً إلى الضامن الأول لقيام كيان الاحتلال الصهيوني عام 1948.
واليوم، وبعد أكثر من 75 عاماً، تعود لندن لتعلن اعترافاً متأخراً لا يغير شيئاً من الواقع الميداني، بل يقترن بشروط وإملاءات تخدم العدو نفسه.
الموقف الأمريكي: أولوية “أمن إسرائيل”
واشنطن، وكما هو متوقع، قللت من أهمية الخطوة الأوروبية، ووصفتها بأنها مجرد استعراض سياسي.. متحدث باسم الخارجية الأمريكية شدد على أن أولويات بلاده هي إطلاق سراح الرهائن وأمن الكيان الصهيوني و”السلام والازدهار” في المنطقة.
لكنه أوضح بوضوح أن ذلك “لن يتحقق إلا إذا كانت المنطقة خالية من حماس”، في إشارة صريحة إلى أن الإدارة الأمريكية لا ترى في الاعتراف بالدولة الفلسطينية إلا وسيلة لابتزاز المقاومة وتجريدها من شرعيتها، بينما يبقى الكيان الصهيوني الضامن الوحيد لرؤيتها للمنطقة.
اعتراف مشروط بالعقوبات على المقاومة
صحيفة التليغراف البريطانية كشفت أن رئيس الوزراء كير ستارمر لم يكتفِ بالإعلان عن الاعتراف، بل رافق ذلك بإجراءات عقابية جديدة ضد حركة حماس.
هذا التزامن يعكس بوضوح أن الخطوة الغربية ليست دعماً للحقوق الفلسطينية، بل محاولة لفرض “فلسطين بلا مقاومة”، أي كيان منزوع السلاح والسيادة، في ظل استمرار تدفق السلاح الأوروبي للعدو.
أصوات غربية معارضة: الغارديان وكوربين
في الداخل البريطاني، انقسمت ردود الفعل. صحيفة التليغراف اتهمت ستارمر بخيانة “إسرائيل” ووصفت القرار بالمخجل، بينما ذهبت الغارديان في اتجاه مختلف، إذ طالبت بجعل الاعتراف بداية لتحرك حقيقي يضع أولوية قصوى لوقف القتل في غزة.
ودعت إلى استخدام النفوذ لوقف تصدير السلاح للكيان، وتعليق التعاون العسكري والتجاري والبحثي معه، فضلاً عن الدفع نحو محاسبته أمام المحاكم الدولية.
وفي البرلمان، برز صوت جيرمي كوربين، عضو مجلس العموم، الذي أكد أن بريطانيا ما تزال تزوّد الكيان بالمقاتلات الحربية التي تقتل الفلسطينيين في غزة، داعياً لوقف التعاون الأمني والعسكري مع تل أبيب.
تصريحات كوربين كشفت التناقض الصارخ بين الاعتراف الشكلي بالدولة الفلسطينية وبين الدور العملي لبريطانيا كأكبر داعم عسكري واستخباري للاحتلال.
الرد الصهيوني: تهديد ووعيد
الاحتلال الصهيوني لم يتأخر في الرد، فجاءت تصريحات نتنياهو مليئة بالوعيد.. إذ قال: “أنتم تمنحون الإرهاب مكافأة ضخمة… لن تقوم دولة فلسطينية غرب نهر الأردن، وسأرد على محاولة فرض دولة إرهابية في قلب أرضنا بعد عودتي من الولايات المتحدة”.
هذه الرسالة لم تترك مجالاً للشك بأن تل أبيب لا ترى في الخطوة الأوروبية أي قيمة سياسية أو قانونية، بل تعتبرها تهديداً ينبغي مواجهته بالتصعيد.
أما المتطرف إيتمار بن غفير، وزير ما يسمى بالأمن القومي، فدعا إلى فرض “السيادة الإسرائيلية الكاملة” على الضفة الغربية وتفكيك السلطة الفلسطينية بالكامل. هذه التصريحات تعكس طبيعة العقلية الاستعمارية للكيان، التي لا ترى في الاعتراف الغربي سوى فرصة للمضي قدماً في مشروع الضم والاستيطان.
الإعلام الغربي: ضغوط شعبية لا تحولات سياسية
صحيفة واشنطن بوست الأمريكية وضعت الاعتراف الأوروبي في سياق الاستجابة الشكلية للضغوط الشعبية والسياسية داخل أوروبا والغرب.
فتصاعد الغضب الشعبي من الحرب على غزة، وما يرافقه من احتجاجات جامعية وبرلمانية، أجبر بعض الحكومات على تقديم “بادرة رمزية” لامتصاص الغضب، دون أن يكون لها أثر عملي على السياسات الفعلية أو على وقف تسليح العدو.
اعتراف لا يوقف الجرائم
من الواضح أن الاعتراف الأوروبي بالدولة الفلسطينية، بما يحمله من تناقضات وشروط، لن يكون له أي أثر فعلي في منع العدو الصهيوني من الاستمرار في جرائمه اليومية ضد الشعب الفلسطيني.
فالأسلحة الأوروبية ما تزال تتدفق، والدعم الاستخباري والسياسي قائم، بينما تُفرض العقوبات على المقاومة لا على الاحتلال.. وهكذا يتحول الاعتراف إلى مجرد خداع سياسي، أو “موقف جبان” – كما وصفته الغارديان – يعكس عجز الغرب عن مواجهة حقيقة الاستعمار الصهيوني الذي رعاه منذ البداية.
خلاصة تحليلية
الاعتراف الأوروبي بالدولة الفلسطينية لا يعدو كونه خطوة شكلية جاءت استجابة لضغوط شعبية داخلية، بينما يستمر الدعم العسكري والسياسي للعدو الصهيوني بلا توقف.
فالغرب الذي رعى قيام الكيان الصهيوني قبل أكثر من سبعة عقود، يحاول اليوم التغطية على جرائم الاحتلال عبر مواقف استعراضية مشروطة بإقصاء المقاومة.
وهكذا يبقى الواقع على الأرض على حاله: استمرار العدوان، استمرار الاستيطان، واستمرار شلال الدم الفلسطيني، في مقابل اعترافات رمزية لا تملك القدرة على وقف الجرائم أو حماية الحقوق.