من الميدان الى الخلود

أسماء الجرادي

ودّعت اليمن أحد أعظم قادتها، وهو الفريق الركن الشهيد محمد عبدالكريم الغماري، قائد هيئة الأركان العامة الذي ارتقى شهيدًا إلى ربه بعد حياةٍ حافلة بالجهاد والمقاومة. حياةٌ كانت كلها استعدادًا للحظة الشهادة التي طالما حلم بها منذ شبابه، فنالها بكرم من الله، ودوّن اسمه في سجل الخالدين، وفي ذاكرة الأمة التي لا تنسى رجالها المقاومين.

ودّعته صنعاء ليلحق بمن سبقه من شهداء حكومة التغيير والبناء، وصحفيي اليمن، و26 سبتمبر واكثر من الف شهيد من ابناء هذا الشعب الذين استهدفهم العدوان الصهيوني. لم يكن الوداع انكساراؐ انما قوةً وشموخًا وافتخارًا. ودّعته صنعاء لا بالدموع وحدها، انما بالعزيمة، وبالرايات المرفوعة، والقلوب التي أقسمت أن تمضي على دربه، مهما اشتدت ظلمة الطريق، ومهما كانت التضحيات.

كما وصفه السيد القائد، كان الغماري عقلًا استراتيجيًا خارقًا، مؤمنا صابرا ومجاهداؐ حكيماؐ ، كان أخًا ورفيقًا للقائد وللشعب. عرفه الجميع وأحبوه بأخلاقه، وتواضعه، وإيمانه، وأعماله. أما العدو، فقد عرفه على مدار عشرة أعوام ككابوسٍ يعمل بصمتٍ وحنكة وبجهودٍ مضاعفةٍ دون كللٍ او ملل ، يقود القوات المسلحة اليمنية في أحلك الظروف بتجديد وتطور مستمر، واجه عدوان التحالف السعودي حتى استعادت البلاد قوتها، وصدّت العدوان، وأعادت رسم معادلة الردع.

ثم قاد معركة اليمن في مواجهة العدو الصهيوني والأمريكي والبريطاني على جميع الجبهات، وقف مع فلسطين، وغزة، ولبنان، ليصبح اليمن درعًا حاميًا للأمة، بينما تخلى كثيرون عن غزة، بقي اليمن بشعبه وقيادته، وبقواته المسلحة التي كان للغماري بصمة واضحةؐ فيها ، وبقي ثابتًا في الموقف، صلبًا في الدعم، حاضرًا في كل وقفةٍ، وكل بيان، وكل طلقة.

أصبح اسم الغماري كابوسًا مرعبًا للصهاينة، فحاولوا استهدافه مرارًا، وأعلنوا ذلك. لكن الرد كان بالظهور من بين أوساط الشعب، في ميدان السبعين، مشاركًا في الوقفات الجماهيرية الأسبوعية دعمًا لغزة، متحديًا تهديدات العدو، ومؤكدًا أن القائد الحق لا يخاف او يختبئ، بل يقف في الصفوف الأولى، يواجه، ويُلهم، ويُرشد.

ثم جاءت اللحظة التي طالما انتظرها: لحظة التحول من حياة الفداء إلى مقام الخلود. ارتقى الغماري على يد أشرّ خلق الله، الصهاينة المغتصبين، الذين ظنوا أن باغتياله سيكسرون إرادة اليمن. لكنهم لم يدركوا أن دماء الغماري ليست نهاية، انما هي بداية لمسيرة ثأر طويلة، وأن اليمن لا تُرهب باستهداف قادتها، بل تزداد صلابةً، وتُنبت من دمائهم آلاف القادة الجدد.

لقد قدّم الغماري أغلى ما يملك(نفسه) في سبيل الله، ودفاعًا عن دينه، وأمة خير خلق الله، وعن المستضعفين في اليمن وفلسطين. وما أعظمها من شهادة، حين تكون على يد هذا العدو الذي امرنا الله بقتاله، وفي سبيل قضيةٍ عادلة، وبإيمانٍ وثقةٍ أن النصر وعدٌ من الله وسياتي عاجلاؐ أو اجلاؐ، وأن الدماء الطاهرة تُثمر ولو بعد حين.

وفي هذا الوداع، أرسلت اليمن رسالتها للعدو الصهيوني وأعوانه: لقد فشلتم في كسر اليمن، ولم تنتصروا على إرادته، ولن تُرهبونا باستهداف القادة. فنحن نمضي في الحياة على مبدأ أننا المنتصرون في الميدان أو الفائزون بالشهادة. واليمن، بشعبه وقيادته، مليء بالعظماء، وسيظل كذلك على مدى الأزمان.

لم يُوارَ جسد الغماري الثرى إلا وقد خلفه قائدٌ لا يقل شأنًا عنه، وهو اللواء الركن يوسف المداني، الذي يُعد امتدادًا حيًا للغماري في الفكر، والميدان، والإيمان. المداني ليس غريبًا عن ساحات المواجهة، فهو القائد الميداني الأول، وصاحب البصمة الواضحة في كل جبهة وكل معركة مع الأعداء.

وتعيينه رسالة واضحة للعدو وعملائه: أن اليمن لا تُهزم باغتيال قائد، انما تُخرج من بين دماء شهدائها قادةً أكثر صلابة، وأشد بأسًا. المداني، الذي حاول العدو السعودي استهدافه مرارًا، ما زال يعمل في نفس الدرب، بنفس العزيمة، وبنفس الإيمان، وسيكمل مسيرة الشهيد، ويقود الوطن و الأمة نحو النصر باذن الله.

وهكذا، تستمر الراية مرفوعة، شامخةؐ لا تنكسر، ولا تُطوى. فاليمن، بشعبها وقادتها، لا تعرف الهزيمة بفضل الله ، والحمد الله.

You might also like