اليمن “مقبرة الغزاة”.. كيف دحر اليمنيون الاحتلال العثماني مرتين في التاريخ؟

يمانيون|محسن علي
اليمن “مقبرة الغزاة”، حقيقة تاريخية ولقب لم يأتِ من فراغ، إنما هو خلاصة تجارب تاريخية مريرة تجسدت بوضوح في مقاومة الشعب اليمني للاحتلال العثماني الذي حاول بسط سيطرته على البلاد في فترتين تاريخيتين متباعدتين,نظر إليه أبناء اليمن على أنه احتلالاً ووجه بمقاومة شرسة ومستمرة من القبائل والقيادات اليمنية التي رفضت الوصاية الخارجية وتمسكت باستقلالها تحت راية الجهاد في سبيل الله, وأثبتوا على مر التاريخ أن أي قوة خارجية تحاول فرض وصايتها على هذا البلد وشعبه, مصيره الفناء وستتعرض للاستنزاف وستتكبد خسائر فادحة بشريا وماديا واستراتيجيا, وأنها تمتلك القدرة على التكيف والتطور لدحر الغزاة الجدد كما دحرت الغزاة القدامى.

الجلاء الأول (1539 – 1635م).. ثورة الإمام المؤيد
بدأت الفترة الأولى من الحكم العثماني لليمن عام 1539م، بعد أن استغل العثمانيون ضعف القوة المملوكية في المنطقة, ورغم سيطرتهم على المدن الرئيسية، إلا أن سلطتهم لم تتجاوز أسوار هذه المدن، وظلت القبائل اليمنية في المرتفعات تشكل نواة متدفقة دائمة وهاجس أرهق الغزاة في حينه.

توحيد صفوف القبائل تحت راية الجهاد
ما بين الفترة 1539-1635م أسس الإمام المؤيد محمد بن القاسم (مؤسس الدولة القاسمية) وأطلق شرارة المقاومة الشعبية لقبائل اليمن ضد الغزو والتواجد العثماني حيث تميزت تلك الفترة بحروب استنزاف طويلة, أدت لجلاء المستعمر العثماني من اليمن بأكملها عام 1635م وأسست دولة يمنية مستقلة عرفت بـ (الدولة القاسمية) استمرت لأكثر من قرنين.

دور الإمام المؤيد
نقطة التحول الكبرى في المرحلة أنذاك هي ظهور الإمام المؤيد محمد بن القاسم , الذي وحد صفوف القبائل اليمنية تحت راية الجهاد في سبيل الله ضد الغازي المحتل, وقاد الإمام حرب استنزاف طويلة ومرهقة للقوات العثمانية المتواجدة على الأراضي اليمنية, مستغلا طبيعة اليمن الجبلية ومستفيدا من صعوبة تضاريسها الوعرة ,خلال معارك الاستنزاف العسكري لقوات العدو, تكبد العثمانيون خسائر فادحة في الأرواح والعتاد, بالإضافة إلى استنزاف خزينة الدولة العثمانية اقتصاديا, حتى شارفت على الإفلاس, ما شكل ضغط سياسي على الوالي العثماني في اليمن “قنصوه باشا” الذي بادر إزاء ذلك إلى طلب الصلح من الإمام المؤيد بعد أن أدرك استحالة السيطرة على البلاد بالقوة, وانتهت الفترة بانسحاب العثمانيين بالكامل من اليمن عام 1635م لتبدأ فترة استقلال يمني استمرت حتى عودة الغزاة العثمانيين مجددا في القرن التاسع عشر.

الجلاء الثاني (1872 – 1918م).. ثورات متجددة و”مقبرة الأناضول”
عاد الغزاة العثمانيون إلى اليمن مرة أخرى في عام 1872م، مستغلين حالة الفوضى والنزاعات الداخلية, ورغم أن هذه الفترة تميزت بمحاولات عثمانية لتنظيم الإدارة، إلا أن المقاومة اليمنية لم تتوقف أبداً، وظلت اليمن تُعرف في الأوساط العثمانية بـ “مقبرة الأناضول” لكثرة الخسائر البشرية التي تكبدتها صفوف قواتهم بنيران اليمنيين, حيث كانت الحملات العسكرية المتكررة تستنزف أعداداً هائلة من الجنود الأتراك قدرت بمئات الآلاف.
شهدت الفترة 1872-1918م ثورات متلاحقة وحروب طويلة استمرت لعقود, وكان للجلاء الثاني شخصية جديدة برزت إلى الساحة اليمنية ممثلة بالإمام يحيى حميد الدين (مؤسس المملكة المتوكلية اليمنية) أدت للإنسحاب الثاني والنهائي للعثمانيين عام 1918م بعد هزيمتهم في الحرب الأولى, إذ قاد الإمام يحيى حميد الدين المقاومة اليمنية في هذه الفترة واستطاع أيضا توحيد القبائل اليمنية تحت قيادته.,
كانت ثورة 1904م نقطة التحول الجديدة, حيث سيطر الثوار على العديد من المدن والمناطق اليمنية ما أجبر العثمانيين على إرسال تعزيزات ضخمة, وبعد حروب استنزاف طويلة اضطر الغزاة العثمانيون إلى توقيع اتفاقية “دعان 1911م” مع الإمام يحيى والتي اعترفت بالإمام حاكما على المناطق الجبلية في اليمن , ورغم أن الاتفاقية لم تكن جلاء كاملا’ إلا أنها كانت اعترافا ضمنيا بفشل الغزاة مجددا في سيطرتهم على اليمن, حتى جاء الجلاء النهائي مع نهاية الحرب العالمية الأولى عام 1918م حيث انسحبت قوات الغزو العثماني مهزومة ذليلة صاغرة من اليمن , ليعلن بعدها الإمام يحيى تأسيس الدولة اليمنية المستقلة.

كلفة الخسائر الاقتصادية للغزو العثماني
أدت المقاومة اليمنية المتواصلة إلى تدمير أو تعطيل العديد من المشاريع العثمانية، مما زاد من كلفة السيطرة, بينما كانت تكلفة إبقاء القوات العثمانية في اليمن تفوق بكثير الموارد التي يمكن جنيها مما كانوا يعتبرونها ولاية (اليمن)، مما أدى إلى استنزاف الخزينة, حتى أصبحت بنظرهم ولاية خاسرة اقتصادياً، تعتمد بشكل كبير على الدعم المالي من مركز ما يسمى “الخلافة” في إسطنبول.

عوامل انتصار اليمنيين
من أهم ما تميزت به المقاومة اليمنية في صراعها مع الغزاة على مر التاريخ العديد من العوامل والتي كان على رأسها الوعي الكامل بطبيعة الصراع مع الأعداء, الذي انعكس بشكل إيجابي في مواجهة الغزاة مواجهتهم بروح جهادية عالية’ حيث كان ينظر للمحتل على أنه قتاله واجب ديني, وهذا الجانب أسهم في تعزيز صمود المقاتلين, بينما كان العامل الآخر هو وحدة الصف القبلي, إذ كان التفاف القبائل اليمنية حول القيادات الوطنية (الأئمة) هو العامل الحاسم في استمرار الجهاد والحفاظ على توحيد الجبهة الداخلية من أي اختراق, فيما مثلت الطبيعة الجغرافية لليمن العامل الثالث, إذ أسهمت التضاريس الوعرة في إعاقة حركة الجيوش العثمانية النظامية , ووفرت ملاذا آمنا لأبناء اليمن, وهذا ما شكل عبئا اقتصاديا هائلا على الخزينة العثمانية, إذ أن بقاء القوات العثمانية المحتلة تفوق بكثير الموارد التي يمكن جنيها.

التاريخ يعيد نفسه بصورة أشد
المتابع للغزو الحديث لليمن من قبل تحالف العدوان والاحتلال الأمريكي السعودي الإماراتي يجده نفس المسار التاريخي المرير الذي تجرعه الغزاة العثمانيون في احتلالهم الأول والثاني ، لكن بخسائر أكثر فداحة وأسرع وتيرة، نظراً للتطور التكنولوجي للجيش اليمني المسنود بقبائل اليمن منذ العام 2015م وحتى اليوم .
الاستنزاف المالي:
كانت خسائر العثمانيين تُقاس بملايين العملات الذهبية، بينما تُقاس خسائر التحالف الأمريكي السعودي الإماراتي الصهيوني البريطاني بمئات المليارات من الدولارات، مما يجعله عبئاً اقتصادياً غير مسبوق,
الخسارة الاستراتيجية:
فشل العثمانيون في السيطرة على اليمن، لكنهم لم يواجهوا قوة ردع تهدد عمقهم الاستراتيجي, أما التحالف الحديث، فقد واجه قوة ردع يمنية قادرة على استهداف العمق السعودي والإماراتي، واليوم البحر الأحمر والعربي وباب المندب وخليج عدن ، مما يمثل خسارة استراتيجية تفوق بكثير خسائر العثمانيين.

تجربة اليمن مع الغزاة ورسالة للغزاة الجدد
أثبت اليمنيون في فترتين تاريخيتين من الزمن أنهم شعب أبي لا يقبلون الوصاية، ونيل الحرية والاستقلال والسيادة واجب ديني ووطني يرخص الغالي والنفيس في سبيل تحقيقها, جسدته الدماء الطاهرة الزكية في الميادين وهو ما يفسر استمرار هذه الروح الإيمانية الجهادية في مواجهة التحديات والغزاة الجدد في العصر الحديث, كما تُعد تجربة اليمن مع الاحتلال العثماني دليلاً تاريخياً على أن الإرادة الشعبية الموحدة الواثقة بالله والمعتصمة بحبله والواعية بطبيعة الصراع مع الأعداء قادرة على دحر أعظم الإمبراطوريات وإذلالها, وما حصل لأمريكا وإسرائيل وبريطانيا في البحر الأحمر خير دليل وشاهد.

You might also like