10 سنوات على مجزرة نُقُم.. ذكرى مثقلةٌ بالألم
يمانيون../
في الحادي عشر من مايو عام 2015م، قبيل ساعات من هُدنةٍ كانت منتظرةَ، قبل عشرة أعوام من اليوم، اهتزت العاصمة اليمنية صنعاء على وقع ثمانِي غارات جوية متتالية لطيران العدوان السعوديّ الأمريكي، استهدفت حيَّ (نقم) المزدحم بالسكان.
لم يكن هذا الحي السكني الهادئ يعلم أنه على موعد مع فصل جديد من فصول الإبادة الجماعية، فصلٍ خططته أقلامُ الحقد في واشنطن ونفذته أيادٍ عميلة من الرياض، لم ترعَ حرمة الدماء ولا قداسة الأرواح.
بصوت يملؤه الأسى، أهالي الضحايا ومعهم كُـلّ أبناء الشعب اليمني الذين شاهدوا عبر شاشات التلفاز مشاهد مجزرة وحشية وجريمة إبادة جماعية يندى لها جبين الإنسانية، يتحدثون عن تلك اللحظات السوداء، وكأنها لا تزال حاضرة في ذاكرتهم المثقلة بالوجع.
عند الساعة الخامسة قبل المغرب، توقف الزمن، لكنه لم يكن إيذانًا ببدء هُدنة منتظرة، كما أعلن يومَها فحسب، بل كانت خاتمةً داميةً لحياة أكثر من 89 شهيدًا، وجرح ما يقارب 300 آخرين، غالبيتهم نساء وأطفال، استباح الطيران السعوديّ أرواحَهم ودماءَهم وحقَّهم في الحياة، محوِّلًا حياتهم إلى ورقة ضغط على طاولة المفاوضات مع القيادة السياسية بصنعاء.
وجاءت الجريمة، بالتزامن مع إعلان عن هُدنة هشَّة، كانت عدسة الكاميرا ترسم بالصوت والصورة ملامح جريمة حرب من ضمن عشرات الجرائم الكبرى بحق الإنسانية في اليمن.. أطفال رُضَّعٌ ونساء وكبار سن وأطفال من مختلف الأعمار حوَّلتهم الغارات إلى أكوام من اللحوم البشرية والأشلاء المتناثرة، والأجساد الممزقة، أشباح بلا بصيرة يفرون من الجحيم. من نجا منهم لا يعرف في أي اتّجاه، الكبير يتفقد الصغير ولا يكاد يراه في كثافة الدخان، وتصاعد النيران، وسماع أصوات الصراخ والاستغاثة من بين أنقاض لمنازل مدمّـرة بشكل كامل وأُخرى جزئية، أَو قائمة لكنها لم تعد آمنة.
العدسة تنقل مشهدًا للموت الجماعي المحتضر بأرواح سكان حي بكامل أركانه وأطرافه، بثماني غارات استخدم فيها العدوّ المجرم قنبلة شبه ذرية ملأ شُعاعُها السماء وكادت أن ترسمَ علامةَ يوم القيامة حين تغرب الشمس من مشرقها، ومن حولها أذيال مشعة بصفار نار تكوي الناظرين صوبها، وتخيف من لمح وهجها.
أنقاض وذكريات وأرواح بريئة، ورائحة الدم والموت والبارود تتصاعد من وسط أعمدة الدخان واللهب والغبار، وصيحات ألم وبكاء الفاقدين تمتزج بأصوات سيارات الإسعاف.
طفل صغير، لم تتجاوز سنوات عمره أصابع اليد، يمسك بقطعة قماش مشبعة بدماء والدته الشهيدة، غيَّر لونَها إلى الأحمر، يحرك يدَيه على جسد لم يعد يتحَرّك، عيناه الصغيرتان لا تصدقان ما يراه. امرأة مكلومة تجوبُ بين الركام، تنادي أسماءَ أطفالها كبارًا وصغارًا، وعلى بُعد أمتار يقع بصرها على جثة رضيعها، وجسد زوجها المحتضِن له قبل محاولة الخروج من المنزل بعد الغارة الرابعة، يعود لها طرفُها فتسقط على كومة المنزل فاقدة الوعي في مشهد أقربَ لكابوس، تتمناه أن يكون كذلك.
شهادات الناجين:
شهادات الناجين ترسم لوحة قاتمة للرعب، علاء كامل، بصوت يرتجف، يتساءل: “لو أن الذي أطلق الصاروخ سمع بكاء النساء وصراخ الأطفال لما أقدم على هذه الجريمة”.. كلمات تختزل قسوة اللحظة، وتدين صَمَمَ القلوب التي تجاهلت أنينَ الأبرياء.
إبراهيم المفتي يضيف بمرارة: “الغبار الكثيف والنيران المشتعلة والركام والشظايا جعلت النزوح صعبًا… الكثير من المواطنين لم يستوعبوا ما حدث، صدمة وحيرة، تجمُدُ الدماءُ في العروق أمام هول مشهد الجريمة”.
أحمد جبير، يروي قصةَ ابنته التي فقدت عقلَها من شدة الفزع، ليضيفَ جُرحًا آخر إلى قائمة الجراح النازفة: “بسبب اليوم المرعب جراء غارات عدوانية أُصيبت ابنتي بالجنون وقمت بربطها خشية أن تفر”. أية وحشية تلك التي تدفعُ طفلةً إلى الجنون وأبًا إلى تقييد فلذة كبده؟
ما بين مجزرتَي عطان ونقم تشابُهٌ في الآثار والسلاح:
التقاريرُ الطبيةُ والحقوقية تكشفُ عن بُعدٍ آخر مروِّعٍ للمجزرة، تشابُهُ الإصابات بين ضحايا مجزرة نقم وضحايا مجزرة حي عطان، حَيثُ ثبت استخدام أسلحة نيترونية محرَّمة دوليًّا، يثيرُ تساؤلاتٍ مقلقة حول طبيعة الأسلحة التي استهدفت المدنيين الآمنين، هل كانت هذه القنابل تحملُ الموت فقط، أم أنها زرعت سُمُومًا ستبقى آثارُها لعقود قادمة؟
تحت سفح جبل نقم، كانت تعيش أحياء شعبيّة آمنة، تحولت في لحظات إلى ساحة للموت والدمار، تقرير اللجنة الوطنية لتوثيق جرائم العدوان يصف كيف امتدت آثارُ التفجيرات الوحشية إلى مناطقَ بعيدة، وكيف غطَّى الجبل الرحيم على بعض السكان من الحمم والشظايا، لكنه لم يستطع حمايتهم من الرعب الذي خلَّفته “الأسلحةُ الفتاكة التي أُلقيت بحقدٍ بالغ”.
في حارة السد، حَيثُ تتلاصق البيوت وتتداخل الحكايات، وجد فريق التوثيق قصصًا تقشعر لها الأبدان، أبواب منازل مخلوعة كأنها أُصيبت بالرعب، وقلوب كانت تبكي وتصرخ بحثًا عن مخرج من جهنم التي أشعلها العدوان.
علاء حسين الكامل يروي كيف شاهد الصواريخ الأولى تهز الحي، وكيف تناثر الناس في خوف، وكيف كانت الطائرات تسقط أسلحة لم يرَ مثلها من قبل، أسلحة كبيرة الحجم تحمل الموت الشامل.
وجع علاء لم يكن على نفسه، بل على النساء والأطفال الذين أصابهم الرعب، كلماته البسيطة تحمل عتبًا عميقًا: “لو أن الذي فوق الطائرة المحملة بالصواريخ والقنابل سمع بكاء النساء وصراخ الأطفال وخوف الشيوخ… لربما رق قلبه وعاتبه دينه ومنعه قرآنه عن أن يفعل بنا ما فعله”.
حتى المدرسة، التي يُفترَضُ أن تكونَ ملاذًا آمنًا، لم تسلم من آثار الجريمة، أمام بوابة مدرسة غمدان، كان محسن صالح الضالعي يردّد بحسرة: “هنا ابني، لم نجد إلا بقايا دماء”. ابنه عبد الرحمن، طالب الصف التاسع، لم يبلغ السادسةَ عشرةَ، أُصيب بشظية بترت ساقَه وهو يحاول الهربَ مع أمه وأخواته من الغارات المتتالية، أمه أُصيبت هي الأُخرى، ورحلة البحث عن علاج تحوَّلت إلى معاناة مضاعفة؛ بسَببِ اكتظاظ المستشفياتِ بالجرحى.
حتى بيوتُ الله لم تَسْلَمْ من هذا العدوان الغاشم. مسجد الذكر، الذي لجأت إليه النساءُ؛ ظنًا منهن أنه مكان آمن، أصابه صاروخ آخر، ليطيّر النساء هاربات من الشظايا وجبروت العدوان الذي لم يحترم حُرمةَ المكان.
في ثلاجة الموتى بمستشفى الثورة، رقدت ثماني جثث مجهولة الهُوية، بعضُها تفحَّم، وبعضها تناثر دماغُه، والبعض الآخر مفصول الرأس، احتاج الأهالي عددًا من الأيّام؛ للتأكّـد من جثامين أقرابهم المفقودة، صور مروِّعة تجسدُ وحشيةَ الجريمة وتنزع عن مرتكبيها أيةَ صفةٍ للإنسانية.
لقد صعّد العدوان السعوديّ الأمريكي من جرائم حرب، ليضيفَ إلى سجلِّه الأسود مجزرةً جديدةً في صنعاء، مستخدمًا أسلحةً محرَّمة دوليًّا للمرة الثانية، بحسب مصادرَ طبية ومحلية، جنون القوة يزدادُ قبل وقف إطلاق النار، بينما تتجهُ الأنظارُ إلى الحِراكِ الدبلوماسي الدولي الذي يعوَّل عليه في محاسبة مرتكِبي هذه الجرائم.
89 شهيدًا وأكثرُ من ثلاثمِئة جريح، هي الحصيلةُ لمجزرة جبل نقم النيترونية، أرقام تتجاوز كونَها إحصائياتٍ لتصبح دليلًا دامغًا على جريمة حرب مكتملة الأركان.
خبراءُ يشيرون إلى قرائنَ تدُلُّ على استخدام أسلحة محرَّمة، ربما كانت نيترونيةً، لتزيدَ من فتكِها وتترُكُ آثارًا مدمّـرة على المدى الطويل.
ناجون من المجزرة باتت أياديهم على الزناد:
بعد مرور عشر سنوات على مجزرة نقم النيترونية، ما زالت الذاكرة تحتفظُ بصور الجثث المتناثرة، والأشلاء الممزَّقة، والجرحى الملقَين بين الأنقاض، أطفال ناجون كبروا وعاشوا بلا أُمهات، بعضُهم هو اليوم في مقدمة صفوف مجاهدي الجيش اليمني، وأُمهاتٌ ثكالى بلا أبناء ولا أزواج.
الدماء التي سالت يومها ما زالت وصمةَ عار على جبين الإنسانية.
اليوم، ونحن نستحضرُ هذه الذكرى الأليمة، فَــإنَّنا لا نستعرضُ فصولًا من الماضي فحسب، بل نطالبُ المجتمعَ الدولي بأسره بتحمُّلِ مسؤولياته الأخلاقية والقانونية، نطالبُ بتقديم مرتكبي هذه الجرائم البشعة إلى محكمة الجنايات الدولية؛ لينالوا جزاءَهم العادل على ما اقترفت أيديهم من فظائع.
دماءُ شهداء نُقُم وكل ضحايا العدوان السعوديّ الأمريكي على اليمن لن تذهبَ سدى، وصوتُ العدالة سيظلُّ يلاحقُ الجناةَ حتى ينتصرَ الحقُّ وتُشفى الجراح، وحالةُ التهدئة بيننا وبين العدوّ مُستمرّة، وشعبنا وقيادتنا وجيشنا على أتمِّ الجهوزية لإنصاف أهالي الضحايا، وتوجيه بُوصلة العداء الحقيقي نحو الدافعِ والمشجِّع اليهودي الإسرائيلي الأمريكي الذي يرتكبُ المجازرَ ذاتها اليومَ بحق أهلنا في غزة واليمن.