امتناع دول خليجية عن الاحتفال بالمولد النبوي الشريف .. بين الفقه الديني ومشاريع التطبيع

على مدى عقود، كان الاحتفال بالمولد النبوي الشريف مناسبة دينية وشعبية تلقى اهتماماً في عدد من الدول العربية، بما في ذلك بعض دول الخليج. غير أن السنوات الأخيرة شهدت تراجعاً ملحوظاً في مظاهر الاحتفال بهذه المناسبة في تلك الدول، الأمر الذي فتح الباب لتساؤلات حول خلفيات هذا الامتناع.
هل هو تحوّل فقهي صرف ينبع من الرؤية الوهابية التي انفردت بتحريم الاحتفال بالمولد النبوي الشريف تحت عنوان  “البدع الدينية”؟ أم أنه جزء من توجه سياسي أوسع يتماشى مع مشاريع التطبيع مع العدو الإسرائيلي، وطمس الهوية والطابع الإسلامي الرسمي لصالح خطاب أكثر انفتاحاً وعلمانية؟

يمانيون / تقرير / طارق الحمامي

 

في هذا التقرير نرصد أسباب هذا التحوّل في المشهد الديني الرسمي، ونبحث في العلاقة بين امتناع بعض الدول الخليجية عن الاحتفال بالمولد النبوي وبين مسار التطبيع الإقليمي.

 

 الامتناع الخليجي .. بين الموقف الديني والسياسة الرسمية

 المنطلقات الدينية .. المولد بدعة؟، في دول كالسعودية والإمارات وقطر، تجنبت السلطات الدينية الرسمية دعم أو تنظيم أي احتفال بالمولد النبوي، انطلاقاً من رؤية فقهية وهابية المرجع تعتبر هذا الاحتفال “بدعة محدثة” في الظاهر ،
يرى مشايخ هذا التيار ، وعلى رأسهم علماء المؤسسة الدينية السعودية، أن النبي محمد صلوات الله عليه وآله، لم يحتفل بمولده، ولا فعل ذلك الخلفاء من بعده، وبالتالي فإن تخصيص هذا اليوم بأي طقوس دينية يُعد ابتداعاً في الدين.

وقد انعكس هذا التوجّه على الممارسات الرسمية، حيث غابت الفعاليات والمظاهر الاحتفالية في أغلب الدول الخليجية، حتى تلك التي كانت تنظم أنشطة رمزية في العقود السابقة.

 التحوّل السياسي وتكريس الموقف .. مع صعود القيادات الجديدة في دول الخليج، خصوصاً في السعودية والإمارات، ظهر توجّه نحو إعادة تشكيل الخطاب الديني بما يخدم الرؤية السياسية للدولة الحديثة، التي تسعى لإبراز صورة أكثر “اعتدالاً” و”انفتاحاً” على الغرب.

في هذا السياق، تم تقليص العديد من الرموز والاحتفالات الدينية التقليدية، بما في ذلك المولد النبوي، لصالح أجندة “رؤية 2030” السعودية مثلاً، والتي تدعو إلى الحد من حضور الدين في المجال العام.

 

من الاحتفاء الشعبي إلى المنع الرسمي .. شعوب الخليج وتحوّل الموقف

تقاليد خليجية شعبية كانت حاضرة عند شعوب الخليج وخاصة في الكويت، البحرين، الإمارات، وحتى بعض المناطق في السعودية مثل الأحساء والحجاز ، كانت تحتفل بالمولد النبوي الشريف بطرق مختلفة.
شملت هذه المظاهر إقامة مجالس الذكر، توزيع الأطعمة، تنظيم الفعاليات الثقافية والدينية، وحتى إنشاد القصائد النبوية، وكان هذا يتم غالباً بإشراف مجتمعي بعيداً عن سيطرة المؤسسة الدينية الرسمية.

في البحرين، على سبيل المثال، كانت المسيرات والاحتفالات تُنظّم سنويًا في بعض المناطق الشيعية والسنية على حد سواء، قبل أن تبدأ القيود بالظهور تدريجياً، وفي الإمارات، كانت المدارس تحتفي بالمناسبة بفعاليات تثقيفية وتراثية.

لكن منذ تسارع مسار التطبيع مع العدو الإسرائيلي، بدا أن هناك اتجاهاً ممنهجاً لتقليص هذه المظاهر الدينية الشعبية.
ففي السعودية، بات الإعلام الرسمي لا يذكر المولد، وفي الإمارات والبحرين، تراجعت التغطيات والفعاليات بشكل ملحوظ، في الوقت الذي أصبحت فيه المناسبات اليهودية مثل “الحنوكا” و”رأس السنة العبرية” تحظى باحتفاء رسمي ودعائي واسع.

ويرى مراقبون أن هذا التحوّل لا يعكس فقط انضباطاً فقهياً تجاه مسألة “البدعة”، بل يعكس رغبة سياسية في تفكيك الروابط الرمزية مع الهوية الإسلامية التقليدية، كجزء من إعادة صياغة المشهد الثقافي تمهيدًا لمزيد من الانفتاح على إسرائيل والغرب عمومًا.

 صمت شعبي وتراجع للخطاب الديني العام

مع هذا التحول، غاب صوت الشعوب الخليجية، بسبب الرقابة السياسية  وانشغال المجتمع بهموم اقتصادية واجتماعية أوسع.
وبات يُلاحظ أن المناسبات الوطنية أو الغربية تلقى دعمًا وإحياءً واسعًا، في حين تُترك المناسبات الإسلامية الكبرى، كمولد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، دون ذكر أو اعتبار، وكأنها لم تعد جزءًا من هوية الدولة الحديثة.

العلاقة بين الامتناع والتطبيع مع العدو الإسرائيلي

قراءات سياسية تربط بين الظاهرتين  .. يرى عدد من المحللين والمراقبين أن التقارب الرسمي بين دول الخليج والعدو الإسرائيلي لا يقتصر على اتفاقيات سياسية واقتصادية، بل يشمل أيضاً إعادة ضبط الهوية الثقافية والدينية.
وفي هذا السياق، فإن تقليص مظاهر الاحتفال بمولد النبي صلى الله عليه وآله وسلم،  قد يكون جزءاً من محاولة تعديل الخطاب الديني وتكريسه للتقارب مع العدو وتمهيداً للانفتاح معه ، كونه يتعامل بحساسية شديدة مع الشعائر الإسلامية التي قد تُوظف سياسياً ضده.

فيما يرى آخرون أن الامتناع عن الاحتفال بمناسبة تمجّد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، في مقابل الانفتاح على رموز دينية يهودية داخل الخليج، يُرسل إشارات واضحة إلى شركاء اتفاقات “أبراهام” بأن الخطاب الديني لم يعد عقبة أمام التعاون الإقليمي.

 المقارنة اليمنية .. مناخ مغاير يربط المولد بالدين والجهاد 

في المقابل، يبرز اليمن كمثال نقيض لهذا التوجّه، ففي اليمن تحوّل الاحتفال بالمولد النبوي إلى مناسبة كبرى تعبّر عن الهوية الإيمانية الجامعة والرفض السياسي للتطبيع والهيمنة الأجنبية.

وتُستخدم المناسبة هناك للتأكيد على التمسك بالرسالة النبوية كمنطلق لمواجهة  “الاستعمار الحديث”، بما في ذلك النفوذ الأمريكي والإسرائيلي في المنطقة.

 

 بين التديّن الشعبي والرسميات السياسية

رغم هذا التحوّل الرسمي في بعض دول الخليج، إلا أن المولد النبوي لا يزال يحظى بشعبية في المجتمعات، سواء في دول كالمغرب ومصر، أو حتى بين الجاليات المسلمة في الغرب.
في حين أن الخطاب الرسمي في الخليج يتجنبه، هناك من يرى أن الشعوب لم تتخلَّ بعد عن هذا الإرث الروحي، ما يبرز التناقض بين التوجهات الرسمية والتدين الشعبي.

 

خاتمة .. تراجع الهوية أم إعادة صياغتها؟

امتناع الدول الخليجية عن الاحتفال بالمولد النبوي الشريف لم يعد مجرد خيار فقهي أو اختلاف مذهبي، بل أصبح، جزءاً من تحول أعمق في هوية هذه الدول، التي تسعى للتماهي مع تحالفات سياسية جديدة في المنطقة وعلى رأسها مع العدو الصهيوني

وسواء كانت هذه المقاربة ناتجة عن قناعة دينية أو توجّه سياسي، يبقى السؤال، هل يمكن تحييد الشعائر الدينية الكبرى مثل المولد النبوي عن وجدان الأمة دون ثمن حضاري؟ وهل يكون هذا الامتناع تمهيداً لفصل تدريجي بين الدين والدولة في العالم العربي؟

You might also like
WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com