اليمن بين مشروع الإذلال وميلاد الاستقلال .. مرحلة إذلال الجيش وتجريده من السلاح

يمانيون | تقرير تحليلي
لم يُسمح لليمن أن يحتفظ بما لديه من أسلحة دفاعية أو هجومية، فضلاً عن تحديثها أو تطويرها.. بل جرى إجباره على تدمير ما يملك بيديه، تحت إشراف مباشر من ضباط أمريكيين، بل وحتى مجندات أمريكيات أُرسلن خصيصاً لمراقبة عمليات التدمير، في مشهد مقصود لإذلال الضباط والجنود على حد سواء.

كانت هذه المشاهد تحمل بعداً نفسياً لا يقل خطورة عن البعد العسكري.. فحين يشاهد الجندي سلاحه الذي يفترض أن يحمي وطنه يُدمّر أمامه بأوامر أجنبية، وحين يُجبر القائد على التوقيع على قرارات تقضي بتفكيك وحداته العسكرية، يصبح الهدف أبعد من إضعاف الجيش؛ إنه قتل الروح المعنوية للشعب بأسره، وتجريد اليمن من الإحساس بالسيادة.

الهيكلة..تفكيك المؤسسة العسكرية

جاء ما سُمّي بـ “هيكلة الجيش” في مرحلة لاحقة، ليكمل عملية التفكيك الممنهجة.. تم بعثرة الوحدات، وإقصاء الكفاءات، وتهميش القيادات الوطنية، مع إبقاء المؤسسة العسكرية في حالة ضعف دائم، أشبه بجيش شكلي منزوع الأنياب، لا يُسمح له بامتلاك أي سلاح استراتيجي.

كان الهدف واضحاً: جيش لا يحمي وطنه من العدوان الخارجي، لكنه يُستخدم فقط لإدارة الصراعات الداخلية، وإدامة الانقسامات، وإسناد مشاريع الإقطاع والتجزئة.

هكذا أرادت واشنطن ومعها أدواتها الإقليمية أن يكون اليمن: ساحة مفتوحة، بلا جيش وطني قوي، وبلا مؤسسة عسكرية محترفة قادرة على ردع التهديدات.

القبضة الأمريكية على القرار

لم تكن السيطرة محصورة بالسلاح فقط، بل امتدت إلى أدق تفاصيل القرار العسكري والسياسي.. السفارة الأمريكية في صنعاء تحولت إلى غرفة عمليات شاملة، تتابع كل صغيرة وكبيرة: من مراكز القيادة والسيطرة، إلى المخازن والمعسكرات، إلى تشكيل الحكومات وتعيين القيادات.

بهذا الشكل، بدا اليمن أقل من دولة مستقلة، وأكثر شبهاً بكيان فاقد للسيادة.. كان الأمريكي هو من يقرر متى يُشترى السلاح ومتى يُدمّر، ومتى تتحرك الوحدات ومتى تُجمّد.. أما القادة اليمنيون، فكانوا مجرد منفذين لأوامر تُصاغ في الخارج وتُفرض من الداخل.

مشروع الاحتلال الصامت

العدوان على اليمن لم يبدأ في 2015 كما يتصور البعض، بل كان قد بدأ قبل عقود، لكن بصيغة أكثر هدوءاً وأعمق أثراً.. فبدلاً من الدبابات والقاذفات، استُخدمت السياسات والاتفاقيات والهيمنة الناعمة لتجريد اليمن من قوته.

كان المشروع احتلالاً صامتاً، لا يرفع أعلاماً أجنبية على المباني الحكومية، لكنه يسيطر على قرارها السيادي، ويُحكم قبضته على كل مؤسساتها.

الاحتلال هذه المرة كان ناعماً في الشكل، قاسياً في الجوهر، ينهش الدولة من الداخل حتى يتركها فارغة من عوامل الصمود.

اليمن الجديد.. من ركام الإذلال إلى قوة الردع

لكن المفاجأة الكبرى أن اليمن الذي جُرد من أسلحته الاستراتيجية، هو ذاته اليمن الذي أصبح اليوم عنواناً للتحرر العسكري والسياسي.

من بلد يُجبر على تدمير صواريخه تحت إشراف أجنبي، إلى بلد يصنع صواريخه الباليستية والمجنحة، ويطور طائراته المسيرة البحرية والجوية، ويقف وحيداً في مواجهة الكيان الصهيوني وحماته في واشنطن.

المفارقة لم تكن صدفة، بل كانت ثمرة ثورة شعبية أعادت تعريف السيادة. فحين قرر اليمنيون أن يثوروا، لم يثوروا فقط على الفساد أو على أدوات الخارج، بل ثاروا على مشروع الإذلال بأكمله.

أعادوا الاعتبار للجيش كحامٍ للوطن لا كأداة للإقطاع، وأثبتوا أن الإرادة الشعبية قادرة على صناعة معجزتها، مهما كانت القيود.

آية الثورة اليمنية

اليمن اليوم يقدم للعالم آية حية على أن الشعوب إذا أرادت الحياة فإن القدر يستجيب لها. من بلد بدا أقل من مستقل، تحول إلى رمز للاستقلال الحقيقي. من جيش أُريد له أن يكون منزوع السلاح، انبعث جيش يطور أقوى الصناعات الدفاعية في المنطقة.

هذه ليست مجرد قصة عسكرية، بل قصة كرامة وطنية واستعادة للسيادة.. اليمن الذي كان مختطف القرار أصبح صانع القرار.. واليمن الذي كان يهان أمام جنود أجانب، أصبح هو من يفرض معادلات الردع على أعداء الأمة، ويعيد التوازن للمنطقة في زمنٍ اختلت فيه الموازين.

الرسائل الاستراتيجية للتجربة اليمنية

ما حدث في اليمن لم يعد مجرد شأن داخلي يخص حدود الجغرافيا اليمنية، بل تحول إلى رسالة استراتيجية تتردد أصداؤها في المنطقة والعالم.

أولاً: إن محاولة تفريغ الشعوب من سلاحها وكرامتها لا تنجح بالضرورة، بل قد تُنتج نقيضها.. فاليمن الذي جُرّد من سلاحه بالأمس، هو نفسه الذي صنع أكثر الأسلحة تطوراً اليوم.

ثانياً: إن السيطرة الناعمة والاحتلال الصامت قد يحققان مكاسب مؤقتة، لكنهما يسقطان أمام إرادة الشعوب الثائرة.

ثالثاً: إن ثورة الـ 21 سبتمبر أعادت تعريف مفهوم الاستقلال في المنطقة: ليس استقلالاً شكلياً تُزينه أعلام وسيادات فارغة، بل استقلال قائم على امتلاك القرار والسلاح والقدرة على الردع.

رابعاً: إن مواجهة الكيان الصهيوني لم تعد مقتصرة على دول الطوق أو قوى كبرى، بل بات بلد حُوصر لعقود قادراً على أن يفرض نفسه رقماً صعباً في معادلة الصراع.

اليمن بهذا المعنى يقدم درساً للعالم بأسره: أن الشعوب إذا صبرت ووعت وقررت، فإنها قادرة على أن تتحول من ضحية إلى فاعل، ومن بلد يُراد له أن يُهان إلى بلد يُحسب له ألف حساب.

You might also like
WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com