معبد أوام (محرم بلقيس) .. جريمة الإهمال والنهب المنظم في قلب حضارة سبأ
يمانيون | تقرير
يمثل معبد أوام، المعروف شعبياً باسم “محرم بلقيس”، أعظم الأصول الحضارية لليمن، حيث كان القلب الديني والسياسي لمملكة سبأ الخالدة.
ويؤكد الخبراء على أن محافظة مأرب هي الموطن الأول للحضارة في اليمن وشبه الجزيرة العربية.
ويقع هذا المعلم الأثري الاستثنائي على الضفة اليسرى لوادي أذنة، على بعد حوالي عشرة كيلومترات من مدينة مأرب القديمة، التي كانت العاصمة السبئية والمحور المتحكم في طرق التجارة القديمة.
التقدير الاستراتيجي لـ “محرم بلقيس” كعاصمة روحية وحضارية
ظلت مكانة معبد أوام راسخة لقرون، حيث كان يؤدي وظيفته كمكان رئيسي لأداء الشعائر السبئية بشكل مستمر منذ أوائل الألف الأول قبل الميلاد وحتى القرن الرابع الميلادي.
وقد أدت هذه المكانة إلى اعتراف دولي متأخر بوزنه، حيث أُدرجت آثار حضارة مملكة سبأ القديمة في مأرب ضمن قائمة التراث العالمي لمنظمة اليونسكو.
وفي تقدير للقيمة الأثرية التي يمثلها، يشير خبراء آثار إلى أن الاكتشافات التي تحققت فيه حتى الآن تضاهي في أهميتها القيمة الأثرية لأهرام الجيزة في مصر، وأطلال بومبي الإيطالية، أو الأكروبوليس في اليونان.
لكن هذه القيمة الإنسانية الفريدة تواجه اليوم إبادة ممنهجة تحت مرأى ومسمع السلطة المحلية التابعة لـ “حكومة المرتزقة” في مأرب، وإهمال متعمد يهدد بفقدان أرشيف اليمن التاريخي الذي يمثل مكتبة ضخمة للنقوش السبئية.
إن استمرار هذا التهديد يقوض بشكل جوهري القدرة العالمية على فهم وتوثيق تاريخ جنوب الجزيرة العربية القديم بشكل عام.
الأسبقية النقشية والدينية لمعبد أوام
يعد معبد أوام أهم وأشهر معابد السبئيين، إذ كُرِّس لعبادة الإله “إل مقه”، الإله الوطني لمملكة سبأ، ويُعرف بسيد أوام.
وقد ارتبط المعبد ارتباطاً وثيقاً بالسلطة الدينية والسياسية للدولة السبئية، حيث كانت زيارته وتقديم القرابين والنذور لإله المقه أمراً إلزامياً على الشعوب والقبائل التي انضمت إلى الدولة السبئية.
وتكمن القيمة العلمية الأبرز لمعبد أوام في كونه المستودع الأكبر للنقوش المسندية، ويشكل هذا الأرشيف مكتبة ضخمة للنقوش اليمنية لآلاف السنين.
حجم الأرشيف وأهميته اللغوية:
تزيد النقوش التي تعود أصولها إلى معبد أوام عن 600 نقش موثق.
بل وتصف مصادر أخرى هذا الموقع بأنه يضم ثاني أقدم مكتبة لوحية للنقوش في التاريخ، حيث عُثر فيه على ما يزيد عن 1000 نقش أثري.
ويؤكد الباحثون أنه لولا نقوش معبد أوام، لكان من الصعب للغاية تأليف المعجم السبئي أو معرفة الكثير من الأحداث التاريخية المثيرة.
القيمة التاريخية والدبلوماسية:
تشكل الشواهد النقشية مصدراً رئيسياً لدراسة العلاقات الدولية لليمن القديم مع دول العالم القديم، بما في ذلك العراق ومصر وبلاد الشام.
كما تمكن الباحثين من استقراء الحدود السياسية لليمن القديم ومدى اتساعها، مما يجعل هذه النقوش سجلًا دبلوماسياً وجغرافياً لا يُقدر بثمن.
إن أي تدمير أو فقدان لهذه النقوش، كما يحدث اليوم، هو محو لصفحات أساسية من تاريخ وهوية الأمة.
الملامح المعمارية والأعجوبة الثامنة المحتملة
يتميز معبد أوام بضخامته المعمارية، مما يؤكد أهميته كأكبر معبد تاريخي قديم في شبه الجزيرة العربية.
البناء والنطاق الأثري: تم تشييد المعبد باستخدام أحجار كلسية مهندمة ومزخرفة بنقوش الخط المسند.
يتكون المعبد من سور ضخم، يبلغ سمك أحجاره ما بين ثلاثة إلى خمسة أمتار، ويصل طول الحجر الواحد إلى نحو مترين.
أما فناء المعبد الداخلي، فيبلغ طوله 52 متراً وعرضه 24 متراً، وتنتصب فيه ثمانية أعمدة ضخمة، يبلغ ارتفاع كل منها نحو 12 متراً.
ورغم ما تعرض له المعبد من عبث ونهب مستمر منذ القرن الرابع الميلادي، فإن أعمال الاستكشاف تؤكد سعة هذا المعبد وضخامة جدرانه وأسواره.
الإمكانات الكامنة تحت الرمال: تشير الأبحاث الأثرية إلى أن الجزء الأكبر من معبد أوام لا يزال مدفوناً تحت رمال مأرب، وأنه مرشح ليكون الأعجوبة الثامنة للعالم عندما تكتمل عمليات التنقيب للكشف عن تفاصيله بالكامل.
وقد أشار بروفسور الآثار الأمريكي، بيل جلانزمان، الذي أدار عمليات التنقيب في محرم بلقيس، إلى أن الموقع قد يصبح أعجوبة أثرية ثامنة، قادرة على اجتذاب حركة السياحة العالمية.
إن هذه الإمكانات الهائلة تتعرض لخطر الإبادة بسبب فشل السلطات المحلية في مأرب في حمايتها، الأمر الذي يتيح لعصابات التهريب مواصلة الحفر العشوائي وغير القانوني، مما يؤدي إلى ضياع السياق الأثري لهذه الطبقات البكر قبل توثيقها.
جريمة الـ “2 طن”: نهب الكنوز الكبرى
يواجه معبد أوام الكارثة الأكبر المتمثلة في النهب المنظم للقطع الأثرية الضخمة، التي يصعب نقلها إلا عبر شبكات تهريب دولية متطورة.
في تطور خطير تم الكشف في أواخر عام 2025 عن مصادرة جدارية ضخمة تزن نحو طُنّين (2000 كيلوغرام) كانت تُهرّب من المعبد إلى الخارج.
هذه القطعة الأثرية الهائلة تؤكد أن عمليات النهب قد تجاوزت مجرد السرقات الصغيرة إلى عمليات معقدة تتطلب معدات ثقيلة وتنسيقاً لوجستياً، وهو ما يشير إلى أن النهب في معبد أوام هو عملية إجرامية منظمة.
كما أظهرت الأبحاث أن لصوص الآثار قد قاموا بنبش وإحداث حفريات واسعة داخل المعبد بحثاً عن أعمدة منقوشة وكنوز ثمينة، مما أسفر عن تدمير طبقات أثرية غير مكتشفة وتشويه الموقع بشكل لا يمكن إصلاحه.
الإهمال الإداري الممنهج لسلطة المرتزقة في مأرب
تفاقمت حالة المعبد نتيجة الإهمال المستمر من قِبل السلطات الرسمية والمواطنين.
ويشير الواقع الأمني والإداري المتردي إلى تواطؤ من سلطة المرتزقة المحلية.
فالموقع لا يتوفر له سوى حارس وحيد كبير في السن وطفل يعمل كبائع في “كشك” صغير، بينما يحيط به سياج وأبواب حديدية متهالكة.
كما أشار محللون إلى أن الموقع يحتاج إلى رعاية وحماية من قبل السلطة المحلية ومكتب الآثار ومكتب الثقافة، بما في ذلك لوحات إرشادية وسياج عازل وحماية زجاجية للنقوش وكاميرات مراقبة، وهي تدابير لوجستية غير مكلفة لا تتطلب سوى قرار من المحافظ التابع لـ “حكومة المرتزقة”.
إن هذا التقاعس الموثق يؤكد أن آثار مأرب تنحدر كل يوم بفعل الإهمال الرسمي الممنهج، في وقت كانت فيه المدينة تنتظر إدراج آثارها ضمن قائمة اليونسكو للتراث العالمي.
النهب المنظم والاستهداف المباشر للذاكرة الوطنية
يتعرض معبد أوام لعمليات تخريب وعبث ونهب منظم من قبل عصابات تهريب الآثار. وتفيد المصادر بأن هذه العصابات تقوم بنبش وإحداث حفريات داخل المعبد بحثاً عن أعمدة منقوشة وكنوز ثمينة.
وتتركز خطورة عمليات النهب الحالية في استهدافها المباشر للأرشيف النقشي والرموز الملكية:
تدمير المكتبة اللوحية: طالت عمليات التخريب ثاني أقدم مكتبة لوحية للنقوش في التاريخ، والتي تحتوي على أكثر من 1000 نقش.
محو الآثار الملكية: تعرضت بوابات الملوك السبئيين/الحميريين للتدمير المتعمد.
فبوابة الملك عمدان بين يهقبض الحميري، الملقب بملك مملكتي سبأ وذي ريدان، تعرضت للتدمير من قبل ناهبي الآثار، كما تم تدمير بوابة الملك السبئي علهان نهفان.
والأخطر من ذلك، تم تخريب نقش قديم يحمل الرقم MB 2001-101 بشكل كلي.
إن هذا الاستهداف الممنهج للبوابات الملكية والنقوش المحددة بأسماء الملوك يشير إلى أن الجهات التي تقف وراء النهب لا تبحث عن الثراء فحسب، بل تستهدف العناصر النقشية ذات القيمة التاريخية والسياسية الأعلى.
ويمثل تدمير هذه النقوش الهامة محواً متعمداً للمعالم المادية للذاكرة السياسية لمملكة سبأ، وتهميشاً لتاريخها الموثق.
لقد تحول التراث الإنساني والإرث الحضاري لليمن، بما في ذلك معالم مأرب، إلى هدف للاعتداءات التخريبية والتدمير المتواصل من قبل “تحالف العدوان”.
لقد حملت وزارة الثقافة والسياحة في صنعاء “حكومة المرتزقة” ومن يقف خلفها مسؤولية تدمير المواقع الأثرية وسرقة الآثار اليمنية وبيعها في المزادات العالمية.
واتهمت الوزارة “حكومة المرتزقة” بأنها “من تدير عمليات النهب والتهريب والتدمير المنظم للمواقع الأثرية وسرقة الآثار وبيعها وشرعنة استهداف كل مناحي الحياة والبنى التحتية في اليمن، بما فيها المواقع الأثرية والمتاحف من قبل طيران العدوان”.
جهود صنعاء لإنقاذ التراث المسروق والمساءلة الدولية
في ظل هذا المشهد المدمر، تضطلع الهيئة العامة للآثار والمتاحف في صنعاء بدور وطني محوري، يتجاوز الانقسامات، في تتبع الآثار اليمنية المعروضة في الخارج والمطالبة باستعادتها.
حجم التهريب ودور تحالف العدوان في التسهيل
أكدت تقارير أن العدوان قد سَهَّل عمليات نهب وتهريب منظمة وواسعة لكميات من القطع الأثرية.
وقدَّر باحثون يمنيون، بناءً على رصد ما يُعرض في المزادات، وجود ما يزيد عن 10 آلاف قطعة أثرية تم تهريبها من البلاد خلال هذه الفترة.
وتؤكد صحيفة «الواشنطن بوست» أنه خلال عام 2019 وحده، هربت الإمارات إلى أمريكا قطع أثرية يمنية بأكثر من 8 ملايين دولار، مما يربط جرائم التهريب بدول “تحالف العدوان”.
قائمة الآثار المنهوبة والتوثيق القانوني
تُسارع الهيئة العامة للآثار والمتاحف في صنعاء الزمن لتتبع هذه القطع، حيث أصدرت القائمة رقم 29 للآثار المنهوبة، والتي حددت 43 قطعة أثرية تُعرض حالياً في متاحف ومزادات خارج اليمن.
وقد دعت الهيئة الجهات الدولية المعنية إلى وقف هذه المزادات غير القانونية وإعادة الحق لأصحابه.
القرار الحاسم بشأن المساءلة: شددت وزارة الثقافة والسياحة في صنعاء على أن جرائم سرقة وتهريب وتشويه التاريخ والحضارة اليمنية لا تسقط بالتقادم، مؤكدة حق اليمن في مقاضاة الدول التي تمول وتدعم هذه الجرائم.
إن استعادة الآثار وملاحقة ومقاضاة جميع المتورطين في جرائم سرقة الآثار وتهريبها هي مسؤولية وطنية وأولوية للوزارة.
إجراءات احترازية لحماية الأرشيف النقشي
في إطار جهود حماية الأرشيف النقشي من الاستغلال التجاري للناهبين، أصدرت الهيئة العامة للآثار والمتاحف في صنعاء قراراً يقيّد نشر أي نقش من نقوش محرم بلقيس (معبد أوام)، أو أي نقش مسندي أو زبوري آخر، إلا بإذن مسبق من الهيئة.
ويهدف هذا الإجراء إلى منع عصابات التهريب من استخدام البيانات الأكاديمية لتوثيق وتثمين القطع المسروقة في السوق السوداء.
الاستنتاجات الاستراتيجية والمطالب الوطنية
يواجه معبد أوام أزمة وجودية، سببها الرئيسي هو الإهمال الإداري للسلطة المحلية في مأرب التابعة لحكومة المرتزقة، وتواطؤها في تسهيل عمليات النهب المنظم التي تستهدف الهوية السبئية.
إن إنقاذ هذا التراث يتطلب تدخلاً دولياً عاجلاً للضغط على القوى المسيطرة محلياً لوقف هذه الجرائم، ودعم جهود صنعاء لتوثيق وتأمين التراث الوطني والتحرك لاستعادة الآثار حيث يجب على المجتمع الدولي مساندة جهود الهيئة العامة للآثار والمتاحف في صنعاء لـ:
- محاكمة المتورطين: دعم الآليات القانونية لملاحقة ومقاضاة جميع المتورطين والمسؤولين المحليين والدوليين عن جرائم السرقة والتهريب وتشويه التاريخ والحضارة اليمنية، والتي لا تسقط بالتقادم.
- إعادة الآثار المنهوبة: الضغط على الدول التي ظهرت فيها الآثار المنهوبة لإعادتها إلى اليمن دون قيد أو شرط، والعمل على وقف المزادات غير القانونية التي تتاجر بالذاكرة الوطنية.
- التوثيق الشامل والمبادرات الوطنية: يجب دعم الخطة الاستراتيجية التي تنفذها الحكومة في صنعاء لترميم وصيانة وحماية الآثار والمخطوطات، بما في ذلك التوثيق الرقمي الشامل للنقوش الباقية لضمان عدم ضياعها نتيجة التدمير المادي.





