اليمن حارس غزة عبر التاريخ: تقرير مفصل عن علاقة تعود لـ 2500 عام
تتجاوز العلاقة بين اليمن وغزة كونها مجرد تضامن حديث، فهي روابط تاريخية عميقة الجذور تمتد لآلاف السنين، تجسدت في تجارة مزدهرة وتحالفات استراتيجية ودور عسكري حاسم.
يكشف هذا التقرير الموسّع عن مسيرة تاريخية طويلة، تبدأ من حقبة طريق البخور القديم، حيث كانت غزة مرفأً عالمياً للبضائع الثمينة القادمة من اليمن، وصولاً إلى العصور الإسلامية، حيث لعب اليمنيون دوراً حاسماً في حماية سواحل فلسطين ومضيق البحر الأحمر من الغزوات الصليبية.
إنها قصة شراكة تاريخية لم تكن مجرد تبادل تجاري، بل كانت حماية متبادلة ودعم استراتيجي عبر العصور، مما يجعل من وصف اليمن بـ “حارس غزة” عبر التاريخ وصفاً دقيقاً يعكس حقيقة العلاقات التي تربط البلدين.
يمانيون | محسن علي
غزة “مرفأ البخور العالمي” لليمن
تُعد غزة، اليوم، رمزاً للصمود الفلسطيني، لكن تاريخها القديم يكشف عنها كمركز تجاري عالمي، كان بمثابة البوابة البرية والبحرية التي تربط بين ثروات جنوب الجزيرة العربية والعالم المتوسطي. ومنذ أكثر من 2500 عام، كانت غزة محطة حيوية على طريق البخور، وهو مسار تجاري عالمي ربط بين مملكة سبأ وحضرموت في جنوب الجزيرة العربية وعواصم الحضارات القديمة في مصر والشام واليونان وروما.
طريق البخور: شريان التجارة القديم
يمتد طريق البخور على طول ما يقارب 2500 كيلومتر، بدأ من جنوب شبه الجزيرة العربية، حيث كانت أشجار اللبان والمر تنمو بكثافة، وصولاً إلى موانئ البحر الأبيض المتوسط. كان اللُّبان، المعروف باسم “ذهب الجنوب”، سلعة ثمينة للغاية، حيث كانت رائحته تُستخدم في الطقوس الدينية والعلاجات الطبية في الحضارات القديمة، مما جعله يساوي وزنه ذهباً في بعض الفترات التاريخية .

كانت القوافل التجارية تنقل البخور من مدن الجنوب العربي، مثل شبوة (عاصمة مملكة حضرموت)، عبر مسارات برية طويلة وصعبة، تمر عبر صحراء النقب، وصولاً إلى مدينة غزة. تشير المصادر التاريخية، مثل رواية المؤرخ الروماني بلينس الأكبر، إلى أن هذه الرحلة كانت تستغرق ما بين 62 إلى 66 يوماً، وتتطلب المرور بـ 65 واحة، كانت بمثابة محطات للاستراحة والتزوّد بالماء والمؤن .
غزّة: البوابة البرية والبحرية
كانت غزة، بفضل موقعها الاستراتيجي على مفترق طرق التجارة بين مصر وآسيا، ميناءً بحرياً ومركزاً تجارياً هاماً. يصفها المؤرخ الدكتور معين صادق بأنها “المخرج الطبيعي لشبه الجزيرة العربية على البحر المتوسط” و”الحاجز الطبيعي بين مصر وآسيا”، مما جعلها مركزاً لبيع البخور اليمني والخليج العربي، بالإضافة إلى الحرير الصيني والتوابل الهندية .
الأنباط: حراس طريق البخور
لعبت مملكة الأنباط، التي امتدت من الحجر (مدائن صالح) في السعودية إلى الحدود السورية، دوراً محورياً في حماية وتنظيم تجارة البخور. كانت البتراء، عاصمة الأنباط، محطة إستراتيجية على طريق البخور، وفرض الأنباط سيطرتهم على هذا الطريق في القرن الأول قبل الميلاد، وفرضوا ضرائب على التجار الذين يمرون بأراضيهم .

كانت غزة ميناءً مفضلاً لدى الأنباط لقربه من البتراء، مما جعلها مركزاً تجارياً نشطاً، حيث تجمعت البضائع القادمة من جنوب الجزيرة العربية وشُحنت إلى وجهاتها النهائية في العالم المتوسطي.
كما استخدم الأنباط ميناء “إيلة” (العقبة) على البحر الأحمر كنقطة انطلاق نحو اليمن أو مصر، مما يؤكد على الدور البحري الذي لعبته المنطقة في ربط اليمن بفلسطين .
اليمنيون القوة العسكرية التي حمت فلسطين والبحر الأحمر
لم تقتصر العلاقة بين اليمن وفلسطين على التجارة، بل امتدت إلى التعاون العسكري والدفاع المشترك، خاصة في العصور الإسلامية، حيث لعب اليمنيون دوراً حاسماً في حماية سواحل فلسطين ومضيق البحر الأحمر من الغزوات الصليبية.
الحروب الصليبية: عبء دفاعي مشترك
بدأت الحروب الصليبية في عام 1095م، عندما أعلن البابا أربان الثاني الحرب على المسلمين لاستعادة القدس. استمرت هذه الحروب لحوالي 200 عام، وشكلت تهديداً خطيراً على العالم الإسلامي. على الرغم من أن العبء الأساسي للدفاع عن المشرق كان على عاتق مصر ودمشق، إلا أن اليمن، بفضل موقعه الاستراتيجي، لعب دوراً مهماً في هذا الصراع.
الدولة الرسولية: جيش اليمن في فلسطين
تأسست الدولة الرسولية في اليمن عام 1229م، وحققت ازدهاراً كبيراً في العلوم والثقافة والتجارة. لكن أهم ما يميز هذه الدولة هو دورها العسكري في دعم العالم الإسلامي ضد الصليبيين.
في عهد الملك المظفر يوسف بن عمر بن علي بن رسول (حكم 1250-1297م)، جرد حملة عسكرية إلى مصر للمشاركة في محاربة الصليبيين .
لعبت هذه الفرقة العسكرية دوراً حاسماً في سقوط مدينة عكا، آخر معاقل الصليبيين في فلسطين، حيث أشاد الرحالة الإيطالي ماركو بولو بمساهمة ملك عدن في تزويد مصر بالخيل والجمال، مما ساهم في نجاح الحملة العسكرية .
حماية مضيق البحر الأحمر: البوابة الإستراتيجية
كان للدولة الرسولية دور محوري في حماية مضيق البحر الأحمر من القراصنة والغزوات، يشير الباحثون إلى أن الدولة الرسولية “اعتبرت الحجاز امتداداً جغرافياً لها”، مما جعلها مسؤولة عن حماية ممرات التجارة البحرية في البحر الأحمر، والتي كانت تمثل شريان الحياة للعالم الإسلامي في ذلك الوقت .
كانت هذه الحماية استراتيجية حيوية، حيث كان مضيق باب المندب، الذي يربط البحر الأحمر بالمحيط الهندي، نقطة عبور رئيسية للبضائع والجيوش. ومنذ القدم، كان اليمن يسيطر على هذا المضيق، مما جعله “حارس البحر الأحمر”، وهو دور استمر عبر العصور حتى يومنا هذا .
ختاماً:
إن العلاقة بين اليمن وغزة ليست مجرد تضامن عابر، بل هي روابط تاريخية عميقة الجذور، تجسدت في تجارة مزدهرة وتحالفات استراتيجية ودور عسكري حاسم. من حقبة طريق البخور، حيث كانت غزة مرفأً عالمياً للبضائع اليمنية، إلى العصور الإسلامية، حيث لعب اليمنيون دوراً حاسماً في حماية فلسطين والبحر الأحمر، فإن هذه العلاقة تؤكد على الدور المحوري الذي لعبه اليمن في تاريخ المنطقة.اليوم، يواصل اليمن دوره كـ “حارس غزة”، ليس فقط من خلال التضامن مع القضية الفلسطينية، بل أيضاً من خلال توظيف موقعه الاستراتيجي في البحر الأحمر لدعم المقاومة الفلسطينية، مما يؤكد على استمرارية هذه العلاقة التاريخية التي تعود لآلاف السنين.