سيف واشنطن على رقاب العرب وغزة في قلب المعركة
يمانيون|بقلم: أحمد إبراهيم المنصور
عندما أسمع طبول الخطة الأمريكية الجديدة تُقرع في المنطقة، يخطر ببالي صوت الطائرات التي مرت فوق صنعاء قبل أعوام، حين كان الليل يضج بالانفجارات ويُراد لنا أن نعتاد الخوف كما يعتاد الناس ضجيج المولدات. الخطة التي روّج لها ترامب باسم “سلام غزة” لا تحمل أي ملامح للسلام، إنما تُعيد إنتاج مشروع قديم بعنوان مختلف: حماية إسرائيل عبر دفع العرب إلى القيام بالدور القذر.
القراءة العملية تُظهر ثلاثة محاور متداخلة: أولاً، محاولة نقل عبء المواجهة عن إسرائيل إلى حلفائها الإقليميين؛ ثانياً، صنع شرعية سياسية لوجود أمني عربي مُنسق مع واشنطن لإدارة ما بعد الحرب؛ ثالثاً، استخدام أدوات اقتصادية وسياسية لردع أي معارضة داخلية.
في الميدان، هذا يُترجم إلى طلب صريح بأن تتحمل الخزائن العربية كلفة إعادة الإعمار، وأن تتحمل جيوشها مسؤولية استقرار الحدود، وأن تتحمل حكوماتها ثمن الاحتواء السياسي للمقاومة.
وعلى مستوى العواصم..!! الحبكة والسيناريوهات مختلفة لكن النية واحدة: السعودية قد تُستخدم لغطاء سياسي واسع، مع وعود بملفات اقتصادية وتجارية تُخفف الضغوط. الإمارات تراها واشنطن شريك تنفيذ سريع للخطوات الأمنية واللوجستية. مصر، بالتحكم في المعابر والحدود، تحصل على دور إدارة التدفقات وشرعية احتواء. قطر جُرّبت كبروفة، والنتيجة رسالة واضحة لكل عاصمة: الطاعة مكافأة، والمعارضة قد تكلفكم ثمناً باهظاً.
من الناحية العسكرية، الطلب الأمريكي يقصد تقليل تكلفة الصراع على إسرائيل عبر إشراك قوات إقليمية ودور استخباراتي عربي. هذا سيغيّر قواعد الاشتباك، من خلال: مزيد من التنسيق الاستخباراتي، تبادل قواعد البيانات، وربما إنشاء آليات مشتركة للضبط الأمني داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة والمحيطة بها. لكن ثمن هذا يكمن في فقدان سيادة فعلية للقرارات العسكرية لدى تلك الدول، وتحويل جيوشها إلى أدوات إسناد بدل صانعات قرار.
واقتصادياً، الضريبة على الدول العربية ستكون مباشرة وغير مباشرة، مثل: تمويل إعادة الإعمار، دفع فاتورة أمنية طويلة الأمد، وتعويضات محتملة، بالإضافة إلى تكلفة احتواء الاضطرابات الداخلية الناجمة عن مشاركة القوات أو الدعم.
لكن هل خزائن الخليج مستعدة لتحمّل فاتورة سياسية يرفضها الشارع؟ سؤال يبدو بديهياً، لكنه لم يلقَ إجابة مقنعة في دوائر صنع القرار هناك.
وسياسياً، الرهان الأمريكي أن يحقق مكاسب رمزية (صور تطبيع جديدة، تصدّر دور عربي وسيط) بينما تُرهن الحقوق الفلسطينية لصفقات إقليمية. هنا تكمن الخيانة الحقيقية، مثل: تحويل القضية من حق وكرامة إلى بند تفاوضي يُشترى ويُباع.
هل يقبل شعب فلسطين أن تُعرض حقوقه كمقايضة؟ وهل سيقبل عربي أن تُحمّل حكومته دماء الآخرين مقابل امتيازات؟ الجواب معروف في الشوارع قبل المكاتب.
لماذا تفشل الخطة عملياً؟ لأن المقاومة ليست قوة قتالية تُحاصر أو تُدهن ببروتوكولات دبلوماسية فقط. المقاومة تجربة اجتماعية وثقافية ودينية، تُغذّيها الذاكرة والجغرافيا ونكبة متصاعدة. الإقصاء القسري أو الضغوط المالية تُفرز دوماً أذرعاً جديدة للمقاومة. وقد شهدت الجغرافيا القريبة أن كل ضربة خارجية تُولّد قوى ردّ تفرض على المعتدي ثمناً مضاعفاً.
في اليمن، تجربة المواجهة الطويلة تعطينا نموذجاً عملياً: لا تُقيّم القدرة القتالية بقيمة الأسلحة وحدها، ولكن بمدى ارتباط القوة بالمجتمع. التسليح المتقدم قد يُخضع مواقع، لكنه لا يغيّر إرادة شعبٍ اعتاد الصمود. لهذا، أي خطة تُحاول إطفاء جذوة المقاومة عبر استبدالها بعملاء أو وكلاء ستفشل أمام عزم الشعوب.
الأسئلة المفتوحة ملتهبة: كيف ستتعامل أنظمة كبرى مع احتجاج شعبي داخلي إذا طُلب منها إرسال قوات أو تسليم بيانات؟ ما التكلفة الحقيقية لتموضع جيوش عربية على خطوط مواجهة داخل عالم عربي ملتهب؟ وهل ستتمكّن واشنطن من فصل التكلفة المادية عن التكلفة السياسية للأنظمة؟ الإجابة قد تفضي إلى فراغ سلطوي جديد، قد تستغله قوى مقاومة أو تيارات شعبية.
من جانب المقاومة والفصائل، الخطر ليس فقط في السلاح، لكنه في محاولات تجريد المشروع الديني والوطني من دعم جمهوره وتجريده من شرعيته عبر حملات ترويجية تسوّق لعناوين “استقرار” تدفع ثمنه الشعوب. المطلوب إذن مواجهة سياسية وثقافية: استعادة خطاب يشرح للمواطن لماذا المقاومة حق، ولماذا التنازل أو الاستبدال يعني استسلاماً لقيم تُرفض.
ومن يحسب أن الصفقة تُنفّذ بمعزل عن ردود فعل إقليمية فاعلة، فهو واهم. إيران، وحلفاؤها في لبنان، والعراق، وسائر البيئات المقاومة لن تقف مكتوفة اليدين أمام مشروع يهدف إلى تهميشها وإضعافها. المواجهة قد تأخذ أشكالاً متعددة: دعم لوجستي، هجمات مضادة في العمق، أو تحريك قواعد ضغط دبلوماسي.
واشنطن وتل أبيب يحسبان حساب الغطاء السياسي والعمليات المحدودة، لكن هما يغفلان حساب الإرادة الشعبية والرباط التاريخي بين الشعوب والمقاومة.
وما يُروّج له اليوم باسم “سلام” هو فخّ. يقوم على مبدأ إلقاء المسؤولية وتفريغ معنى المقاومة من مضامينها. والرد الطبيعي—الذي رأيناه في مواقف الشعوب—هو استمرار الرفض والتشبث بالحقوق. إن كانوا يريدون أن يحموا إسرائيل على حسابنا فنقول لهم: لا للوساطة التي تُكرّس الاحتلال، ولا للصفقات التي تُجرّ وراءها شعباً بأكمله. التاريخ في هذه المنطقة لا يرحم من يراهن على أن الخوف أو المال سيغيران إرادة أمة.