صعدة وسورها العظيم.. حصن الهوية الإيمانية وقصة بناء دولة على أسس من العلم والإيمان
يمانيون: محسن علي
في أقصى شمال اليمن تقع مدينة محافظة صعدة, أيقونة تحكي ذاكرة أمة وسجل تاريخ حافل بالبطولات والجهاد والصمود , وينبوع إيمان متدفق العطاء لا ينضب, يقطنها شعب وصفه الرسول المصطفى صلوات الله عليه وآله بـ “مدد الرحمن”, هناك تقف مدينة صعدة القديمة، محاطة بسورها الطيني العظيم، كشاهد حي على دورها المحوري كحصن منيع للدفاع عن اليمن، وكمنارة علمية لحماية الهوية الإسلامية والقيم الإيمانية من محاولات الطمس والتشويه على مر العصور, ارتبطت بشكل وثيق بشخصية مؤسسها، الإمام الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين، الذي جعل منها منطلقًا لمشروعه الوحدوي والديني.
سور يحمي الدين والهوية
عندما تطأ قدماك مدينة صعدة القديمة، لا يمكنك إلا أن تشعر برهبة التاريخ المنقوش على جدران سورها وأزقتها الضيقة’ إذ كان ولا يزال جدارسورها فاصل بين مرحلتين من تاريخ اليمن, فمع قدوم الإمام الهادي في القرن الثالث الهجري (التاسع الميلادي) إلى اليمن، تحولت صعدة من مجرد محطة على طريق الحج إلى عاصمة سياسية وروحية، وحصن متقدم للدفاع عن هوية اليمن الإسلامية الأصيلة في وجه التحديات الداخلية والأطماع الخارجية.
الإمام الهادي وتأسيس صعدة.. مواجهة التحديات وحماية القيم
وصل الإمام الهادي إلى اليمن في عام 284هـ (897م) في فترة كانت البلاد تموج فيها بالصراعات الداخلية وتواجه خطر القرامطة، الذين مثلوا تهديدًا فكريًا وعسكريًا خطيرًا’ حيث كانت أفكار القرامطة، التي انتشرت في بعض مناطق اليمن، تخالف جوهر العقيدة الإسلامية وتهدد النسيج الاجتماعي اليمني.
مركزا لتوحيد اليمن ومنارة للعلم
في هذا السياق، لم يكن اختيار الإمام الهادي لصعدة عشوائيًا, فقد أسس المدينة لتكون’ قاعدة عسكرية وسياسية ’ ومركزا علميا ودينيا, واتخذها منطلقًا لتوحيد اليمن ومواجهة القوى المتناحرة، سواء القرامطة أو القوى المحلية التي كانت ترفض السلطة المركزية, وأصبحت بمثابة “غرفة عمليات” قاد منها الإمام الهادي حملاته العسكرية التي هدفت إلى تحقيق الأمن والاستقرار, وحين أدرك أن المواجهة العسكرية وحدها لا تفكي, أقدم على تأسيس مسجد الهادي الشهير ليكون منارة للعلم والفقه، ومركزًا لنشر تعاليم الإسلام الصحيحة ومواجهة الأفكار الدخيلة التي كانت تهدد “الهوية الإيمانية”’ ومن هذا المسجد، تخرج آلاف العلماء الذين حملوا لواء العلم والدعوة في مختلف أنحاء اليمن وإلى يزال عطائه مستمرا وإلى اليوم.
دعوة اليمنيين له
في أواخر القرن الثالث الهجري، كانت اليمن تعاني من الفرقة والانقسامات، وكان النفوذ العباسي مترنحًا. رأى كبار أعيان قبائل صعدة والجوف ونجران أن لا سبيل للخروج من هذه الفوضى إلا باللجوء إلى عالم مجتهد من آل البيت يقيم فيهم دولة العدل, فراسلوا الإمام الهادي سنة 280هـ، واستجاب لدعوتهم، بعد أن تحقق من صدقهم وبيّن لهم شروطه في الالتزام بالشريعة وإقامة الحدود.
القدوم الأول إلى اليمن (280هـ):
دخل الإمام الهادي اليمن قادمًا من المدينة المنورة، واستقر في صعدة، وبدأ بنشر الدعوة الزيدية، وتأسيس نظام قضائي وتعليمي، حيث أنشأ حلقات للعلم، وبدأ بجمع الناس على العدل ورفع المظالم وخاض عدة معارك عسكرية جهادية بطولية لتثبيت الأمن ورع القوى المتغلبة, وكانت باكورة حروبه الأولى منذ قدومه المبارك المعارك التالية:
معركة “وادي تنعم” سنة 281هـ ضد بني الحارث
معركة “الجُعْرة” ضد الطامحين من قبائل بكيل
وواجه تمرد بعض القبائل مثل “بني مطر” الذين نكلوا بالدعوة، وتمكن من هزيمتهم وإعادة الأمن
العودة إلى الحجاز
في عام 284هـ، عاد الإمام الهادي إلى المدينة المنورة بعد اضطرابات داخلية شديدة بين القبائل، وشعوره بتراجع التزام الناس بالشروط التي قدم لأجلها, وترك خلفه نظامًا إداريًا وقضائيًا، وأرسل من يمثله.
القدوم الثاني (286هـ)
عاد الإمام عليه السلام إلى اليمن بعد إلحاح من القبائل واعترافهم بخطئهم, هذه العودة كانت أكثر حزمًا وتنظيمًا، فأسس نواة الدولة الزيدية بشكل أقوى حيث كان يقول لهم ( أطيعوني ما أطعت الله فيكم فإن عصيته فلا طاعة لي عليكم أبدا)، وجعل من صعدة عاصمة له, وخاض ثلاث معارك شهيرة جدا وكبيرة وهي كالتالي:
معركة “المران” سنة 288هـ: ضد فلول مناوئة تحالفت مع بعض بقايا النفوذ العباسي.
معركة “ذي مرمر” سنة 290هـ: والتي قضى فيها على تمرد واسع لبني جُذام.
المعركة الشهيرة ضد “الأطروش العباسي” سنة 294هـ والتي انتهت بانتصاره الساحق.
سور صعدة.. درع الأمة في وجه الاحتلال والغزو
يعتبر سور مدينة صعدة، الذي يبلغ طوله أكثر من 3000 متر وارتفاعه 8 أمتار، أحد أعظم الأسوار التاريخية في اليمن, تم بناؤه وتجديده عبر العصور ليكون خط الدفاع الأول عن المدينة التي أصبحت رمزًا للدولة, توجد في اعلاه فتحات مائلة كانت تستخدم للقنص دفاعاٍ عن السور وبه عدد ابراج ونوب للحراسة عند المداخل الأربعة وصممت تعاريج لإخفاء أبواب السور ولا يضاهي روعة بنائه إلا روعة التخطيط والتمويه والحصانة فقد شيد لأغراض حربية وعسكرية بحتة في فترة الجهاد والتحرك الشعبي بقيادة الأئمة ضد الاحتلال العثماني الأول لليمن, وبينما كانت مناطق أخرى من العالم الإسلامي تخضع لتأثيرات ثقافية وسياسية خارجية، ساهمت عزلة صعدة وحصانتها في الحفاظ على موروثها الفكري والعقائدي والجهادي والفقهي والاجتماعي، مما جعلها خزانًا للهوية اليمنية الإسلامية الأصيلة.
الدور الحاسم في مواجهة محاولات الاحتلال والغزو
شكل سور مدينة صعدة دورا حاسما في مواجهة حملات الغزو والاحتلال لليمن, ففي القرن السادس الهجري، شكلت صعدة ودولتها التي أسسها الإمام الهادي تحديًا كبيرًا لمحاولات الأيوبيين السيطرة الكاملة على اليمن, فصمدت المدينة خلف أسوارها ورفضت الخضوع، مما حافظ على استقلالية جزء كبير من المرتفعات الشمالية, وكذلك خلال فترتي الغزو والإحتلال العثماني’ كانت صعدة وقبائلها في طليعة المقاومة, ومثلت المدينة بأسوارها المنيعة وقبائلها المحيطة بها كابوسًا للغزاة، حيث انطلقت منها العديد من الثورات التي قادها أعلام الهدى من أئمة الزيدية لطرد العثمانيين، والتي تُوجت في النهاية باستقلال اليمن.
في قلب المدينة التاريخية
عندما يلج المرء مدينة صعدة القديمة من أحد الأبواب الأربعة السور صعدة يجد أمامه مدينة تاريخية يتصاعد منها عبق التاريخ القديم أحياء عدة شيدت البيوت جوار بعضها البعض في خط طويل من جانبين يتوسطهما شارع ينتهي بأبواب مستقلة “مداخل ومخارج” لكل حي وشيدت هذه البيوت من الطين “الزابور” بأشكال وصور متباينة وبنمط عمارة موحدة هي “العمارة الإسلامية” في القرنين الخامس والسادس الهجري وتعد الأحياء الشمالية “حي عليان” “السفال” “المصموط” شيبان” أقدم هذه الأحياء وهناك قرابة 27 مسجداٍ تاريخياٍ قديماٍ في المدينة, لكن اهمها واعظمها “جامع الهادي” الذي اختطه الإمام الهادي يحيى بن الحسين بن القاسم 284هـ وشيد جامعه الموجود في الجزء القبلي للمسجد وتوفي وهو دون القامة, وشهد الجامع توسيعات عديد,ة وأضافات منها تشيد المئذنة في 751 هـ على يد المهدي علي بن محمد, والتوسعة الكبرى التي أقامها شمس الدين بن شرف الدين في 947 هـ إبان الحراك الجهادي ضد الاحتلال العثماني, حيث تم استكمال بناء المسجد من ثلاثة اتجاهات الشرقية والغربية والجنوبية لتلتقي مع الجامع الأصلي لتشكل مربعاٍ وسطه شمسية “صوح كبير” مماثل للجامع الكبير بصنعاء, ثم جاء القاسم بن محمد بن القاسم وأبناؤه من بعده خلال حكمهم لليمن ليضيفوا المشاهد الخلفية ذات القباب الرائعة والتطريزات المعمارية الفريدة من الداخل وبها أضرحة الإمام الهادي وابناؤه والمهدي علي بن محمد وعدد من امراء القاسم إبان الدولة القاسمية في القرن الحادي عشر الهجري.
ويعتبر جامع الهادي من أروع وأجمل المساجد التاريخية في اليمن يعكس طراز العمارة الإسلامية اليمنية وتعكس ابداعات المعماريين اليمنيين القدماء في الزخرفة والتشييد والبناء وهو من أهم ملامح ومعالم المدينة القديمة.
روعة التخطيط والبناء
وعلى مقريه من جامع الإمام الهادي تنتصب “قلعة صعدة” داخل سورها الطيني القديم وقد أقيمت على هضبة متوسطة كانت مادة الحديد تصهر فيها وتشكلت من خبث الحديد وبقايا اعمال الصهر للحديد حيث كان يوجد قرابة 3000 فرن بدائي لصهر الحديد في مدينة صعدة في القرنين السادس والسابع وزادت بعد ذلك وكانت تصدر مادة الحديد إلى تركيا في القرن العاشر الهجري القلعة حجرية ذات طوابق أربعة ضخمة البنيان دائرية الشكل وواجهة للمدنية ويحيط بها سور طيني في قمة الروعة الهندسية والبناء ويوجد بداخل السور مرافق ومباني حراسة وترتبط القلعة بنفق تحت الأرض إلى خارج السور وقد شيدت في 947هـ على يد الأمير شمس الدين بن شرف الدين بن المطهر الذي شيد تكملة جامع الهادي وشيد سور صعدة الذي يحيط بالمدنية دائرياٍ وله أربعة أبواب “باب جعراف” الشرقي و”باب اليمن” الجنوبي و”باب نجران” الشمالي و”باب ستران” الغربي وكان شمس الدين قد اقام قصرا لأخيه المطهر بن شرف الدين عند الباب الغربي من الداخل وقد تدمر ونشأت في موقعه “حارة القصر” إذ أن المطهر كان ملكا مهابا قاد اليمن في نضالاتهم ضد الأتراك العثمانيين في القرن العاشر الهجري وكبدهم هزائم مرة في ثلاء وصعدة وصنعاء وغيرها.
صعدة اليوم.. إرث من الصمود
اليوم، وبعد أكثر من ألف عام، لا تزال مدينة صعدة القديمة وسورها وجامعها الكبير تروي قصة الإمام الهادي ومشروعه الحضاري والديني والثقافي, لبناء دولة على أسس من العلم والإيمان، وقصة شعب أبيّ رفض الخضوع للغزاة والمحتلين، وتمسك بهويته وقيمه, وفي ظل ما يواجهه اليمن من تحديات معاصرة، يبقى تاريخ صعدة مصدر إلهام، وتظل أسوارها المنيعة رمزًا للقدرة على الصمود وحماية هوية أمة بأكملها في أصعب الظروف.