طوفان الأقصى بعد عامين
أسماء الجرادي
في السابع من أكتوبر 2023 انطلقت عملية «طوفان الأقصى» لتكون نقطة تحول تاريخية في مسار القضية الفلسطينية. بعد موجةٍ من التطبيع اجتاحت العالم العربي والإسلامي حتى صارت فلسطين تُعامل كعبء سياسي يجب التخلص منه، جاء الطوفان ليقلب الطاولة ويعيد القضية إلى الواجهة.
كان لا بد لهذا الطوفان أن يحدث، ليظهر أمام عالمٍ اختار مصافحة المحتل، ولعالمٍ دفن فلسطين تحت ركام المصالح والتحالفات. غزة، تلك الأرض الصغيرة المحاصرة، أعادت رسم حدود البطولة وأعادت القضية إلى مركز الاهتمام بعدما كادت أن تُنسى رغم جرائم العدو المستمرة.
منذ بدء الطوفان واجهت المقاومة، بعون الله، آلة حربٍ هي الأضخم والأكثر تطورًا—ما لم تستطع مواجهته أي دولة في العالم: عشرات الآلاف من الدبابات والمدرعات اجتاحت حدود غزة، وطائرات حربية وتجسسية حلَّقت فوق كل بيت وشارع، وألقت حملها من الصواريخ والقنابل المحرَّمة دوليًا التي اخترقت الأرض ومزقت الإنسان.
جواسيس وعملاء زرعتهم إسرائيل في كل زاوية، وفي كل مؤسسة، وفي كل دولة لاستهداف المقاومة. ومع ذلك صمد رجال المقاومة، قاتلوا في الأزقة والأنفاق والشوارع، بأسلحتهم البسيطة وإيمانهم القوي.
استُشهد العديد من المواطنين والقادة، وعلى رأسهم هنية والقائد محمد الضيف ويحيى السنوار الذي قاتل حتى آخر لحظة، حتى بعصاه التي كانت سندًا له في خطواته.
استُهدِف الأطفال في بيوتهم، وفي المستشفيات والمدارس، وفي الطرقات ومناطق النزوح، ولم يتحرك العالم إلا ليُدين المقاومة، باستثناء أحرار العالم الذين خرجوا إلى الشوارع للضغط على حكوماتهم لوقف جرائم الاحتلال.
ومن نتائج هذا الضغط الشعبي صدور أحكام قضائية ضد نتنياهو وعدد من قادة جيشه، كما اعترفت عدة دول غربية بدولة فلسطين، في ضربة موجعة للصهاينة الذين يسعون لمحو ذكر فلسطين من التاريخ.
كان هذا أحد ثمار «طوفان الأقصى» بعد عامين من الظلم والصبر والثبات والمواجهة، رغم أن فلسطين أرض واحدة لا تتجزأ؛ فقد بدأت الشرارة حين رُفعت رايات فلسطين في كل العالم.
اليوم، وبعد عامين من المواجهة، أعلنت المقاومة قبولها ببعض بنود شروط ترمب لإيقاف الحرب، وأهمها الإفراج عن جميع الأسرى، وهو مطلب المقاومة منذ البداية. وقد تحفظت على البنود الأخرى لمناقشة تفاصيلها؛ لقد قررت تسليم الأمر للوسطاء ليأتوا بما يسمونه «السلام»—ذلك السلام الذي لطالما استُخدم للنيل من المقاومة.
هذه الخطوة ليست استسلامًا ولا تراجعًا، بل مناورة سياسية ذكية تُسقط الحجة عن المقاومة وتضع الكرة في ملعب من ادّعى الحياد وادّعى أن المقاومة هي العائق أمام «السلام» المنشود.
أمّا المقاومة فهي تدرك أن إسرائيل لا تلتزم بأي اتفاق إلا حين تُهزم، وأنها تستخدم التفاهمات كوسيلة للمكر والخداع لاستعادة قوتها وترتيب صفوفها ثم العودة إلى عدوانٍ أعنف مما كان.
وما الضفة الغربية والقدس إلا مثال حي على أطماعها المستمرة: فالضفة والقدس تعيشان تحت وطأة احتلال منهجي رغم أنهما تحت حكم السلطة الفلسطينية التي باتت أداةً في يد الاحتلال؛ هناك توسع استيطاني يهدف إلى ضم الضفة بالكامل، واقتحامات يومية للبلدات والمدن، واعتقالات عشوائية، واعتداءات على الأهالي.
وفي القدس اقتحامات متتالية للمسجد الأقصى واعتداءات على المصلين ومنع الكثير من دخوله، وفرض قيود على النساء والأطفال في محاولة لفرض واقع جديد بالقوة. وفي ظل هذا المشهد تقف السلطة الفلسطينية عاجزة ومتواطئة؛ فهي لم تُطلق رصاصة واحدة ولم تُقاوم، بل تعاونت أمنيًا مع الاحتلال وساعدته في ملاحقة المقاومين.
والنتيجة؟ طمعٌ أكبر من الاحتلال، توسعٌ أوسع، وضمٌ تدريجي للضفة والقدس دون أي رادع. هذا نهج الصهاينة: كلما استحلّوا أرضًا طمعوا في التي بعدها. واليوم، بعد أن تخلّى العرب والمسلمون عن غزة عمليًا ولم يحصل ردع للعدو، يتساءل الكثير: ماذا بعد…؟ أين سيتوقف الاحتلال بعد ذلك؟
من يعرف طبيعة المشروع الصهيوني يعلم أن لا حدود لطمعه، ولا نهاية لتمدده إلا بالمقاومة. ولهذا، رغم كل ما حدث ورغم كل ما يُخطط، فإن المقاومة باقية والقضية مستمرة.
الشهداء خلفوا أجيالًا من القادة المؤمنين الأحرار الذين لن يتركوا أرضهم، طال الزمن أو قصر، وطوفان الأقصى سيتكرر حتى تتحرر الأرض. لن يأمن العدو لأنه محتل، ولن تهدأ المقاومة لأنها صاحبة الأرض.
ومن قلب الجزيرة العربية، من جبال العزة وسهول الصبر، من أرض اليمن التي لم تنكسر رغم الجراح، نُجدِد العهد والوعد: من شعب اليمن وقيادته أن نبقى العون والسند للمقاومة، وأن لا نخذلها مهما اشتدت المعارك أو تعاظمت المؤامرات؛ وبأن تُضاعف اليمن من قدراتها، وتُهيّئ رجالها، وتُجهّز سلاحها، وتُبقي بوصلة نَجْهَتها نحو القدس حتى يأتي وعدُ الآخرة وعد التحرير الكامل لكل فلسطين—من غزة إلى القدس، من الضفة إلى الجليل.
وسيبقى اليمن في الصف الأول حتى تُرفع راية النصر فوق أسوار القدس، ويُكتب للتاريخ أن الأمة لم تمت، وأن الوعد تحقق.