كيف تناول الإعلام الغربي والصهيوني والعربي انسحاب العدو الإسرائيلي من غزة ودخول اتفاق وقف الحرب حيّز التنفيذ؟
في اللحظة التي تراجعت فيها مدرّعات جيش العدو الإسرائيلي خلف الأسلاك الشائكة على حدود غزة، وبدأ صوت القصف يخفت تدريجيًا، كان العالم يُصغي لنبأ طال انتظاره، اتفاق وقف إطلاق النار يدخل حيز التنفيذ، بعد أشهر من الدمار وسيل الدماء في القطاع المحاصر
يمانيون / تقرير / خاص
لكن بعيدًا عن ضجيج الطائرات والدخان المتصاعد، كانت هناك معركة أخرى تُخاض على جبهة الإعلام، ففي ساحات الأخبار ونشرات التحليل، كانت الروايات تُنسج، والحقائق تُروى أو تُطمس، وعيون الشعوب تُوجّه حسب ما تبثه القنوات والمنصات.
فكيف تناول الإعلام الغربي هذه اللحظة؟ وما الرواية التي روّج لها الإعلام العبري؟ والأخطر، كيف تحول بعض الإعلام العربي إلى أداة لخدمة السردية الصهيونية؟
هذا التقرير يرصد أربعة مشاهد رئيسية لتغطية واحدة من أخطر المحطات في تاريخ الصراع الفلسطيني مع العدو الإسرائيلي.
الإعلام الغربي .. حياد زائف وتجميل للكارثة
في كبريات الصحف الغربية، تصدرت عناوين مثل ’’هدوء هش بعد العاصفة’’ أو ’’انفراجة مؤقتة في غزة’’ صفحاتها الأولى، مصحوبة بصور الأطفال تحت الأنقاض وركام المباني، للوهلة الأولى، بدت التغطية ’’متضامنة’’، لكنها في العمق كرّست سردية التوازن بين الضحية والجلاد.
استخدمت وسائل الإعلام مصطلحات مثل ’’نزاع’’، و ’’جولة من العنف’’، متجنبة تحميل الاحتلال المسؤولية المباشرة، وأظهرت تركيزًا على المأساة الإنسانية أكثر من خلفياتها السياسية والقانونية، واحتفت بالجهود الدبلوماسية والوساطات الدولية، دون مساءلة فعالة حول جوهر الاتفاق أو استمرار الاحتلال.
ورغم أن بعض المنصات، مثل الجارديان وواشنطن بوست، بدأت تميل إلى تغطية أكثر توازنًا، فإن السردية العامة بقيت أسيرة ’’الحياد المُضلل’’، الذي يُعفي المعتدي من جرائمه باسم المهنية.
الإعلام الصهيوني .. تسويق تكتيكي وانقسام داخلي
في داخل الكيان الإسرائيلي، لم يُقدَّم الانسحاب على أنه هزيمة، بل كإعادة انتشار استراتيجية مشروطة، خاصة بما يتعلق بإعادة الجنود الأسرى، حيث صوّر الإعلام العبري الاتفاق كنتيجة حتمية لضغوط دولية، وليس استجابة لخسائر فادحة أو فشل سياسي، وركّزت التحليلات على هشاشة الاتفاق، وإمكانية استئناف العمليات العسكرية.
اندلع جدل داخلي حاد في صفحات الرأي، بين من رأى في الاتفاق ’’تفريطًا’’ ومن دافع عنه كاستراحة محارب.
اللافت أن الإعلام العبري، رغم تطرفه السياسي، ظل يُعبّر عن حالة الرأي العام بانفتاح نسبي، ما جعل المشهد الإعلامي فيه ساحة معركة داخلية تعكس عمق الأزمة بين النخبة السياسية والعسكرية والجمهور.
الإعلام العربي .. من التواطؤ إلى التطبيع الإعلامي
ربما كان أكثر المشاهد إثارة للقلق هو ما جرى في بعض وسائل الإعلام العربية، التي لم تكتفِ بالتحفظ أو الحياد، بل تحولت إلى أداة فعلية لتسويق الرواية الصهيونية، في تغيّر يُعبّر عن تحول سياسي أكبر تشهده المنطقة.
تحييد مفرط وُصفت المقاومة بمسلحين، وغُيبت مصطلحات مثل احتلال أو عدوان لصالح عبارات مثل التصعيد والاشتباكات.
تبني المصطلحات الصهيونية والغربية حرفيًا، دون تحقيق أو مراجعة، وكأن المعلومة تُستورد كما هي من مراكز البروباغندا الإسرائيلية.
إقصاء الأصوات الفلسطينية من البرامج الحوارية لصالح محللين يروّجون للتطبيع، ويشككون في جدوى المقاومة أو يُشيدون بحكمة إسرائيل.
كما ظهرت تقارير وبرامج وثائقية تلمّع الاحتلال عبر الحديث عن التعايش، أو إبراز الجانب الإنساني في داخل الكيان الإسرائيلي، متجاهلة القصف والمجازر.
هذا الأداء الإعلامي لم يكن عفويًا، بل جاء في سياق سياسي واضح، تتقدمه موجة التطبيع التي اجتاحت بعض العواصم، حيث تحوّل الإعلام إلى غطاء ناعم لتبرير العلاقات الجديدة، حتى لو كان الثمن خيانة وعي الشعوب.
عند تقاطع المشاهد الثلاثة ، الغربي والصهيوني والعربي ، تتشكل حالة ضباب إعلامي كثيف، حيث تختلط الحقيقة بالتأطير السياسي، وتضيع التفاصيل المهمة بين الأجندات، حيث الإعلام الغربي يُعيد إنتاج الرواية الإسرائيلية باسم الاحتراف، والإعلام الصهيوني يروّج لانتصارات وهمية لتسكين الداخل، والإعلام العربي يُموّه النكبة ليُرضي العواصم، لا الضمير المهني، والنتيجة، غياب صوت غزة الحقيقي.
معركة الرواية لا تقل خطورة عن معركة الأرض
في زمن الحروب، لا تُحسم المعارك فقط على الجبهات، بل في نشرات الأخبار، وفي العناوين، وفي الكلمات المستخدمة لوصف المأساة، وانسحاب الاحتلال من غزة لم يكن نهاية المعركة، بل بداية معركة أخطر، من يمتلك رواية النصر؟ من يُعيد كتابة التاريخ؟ ومن يُقنع العالم بأن الطفل الذي فقد عائلته ليس إرهابيًا، بل ناجٍ من محرقة صامتة؟
في هذه المعركة، لا يمكن ترك الإعلام في يد من يُبيّض الجرائم، أو يُمرر التطبيع، أو يُساوي بين الجلاد والضحية، فالعدو ليس فقط من يحمل البندقية، بل من يُسطّر الكذبة، ويُقنعك أنها حقيقة ، والحقيقة وحدها التي لن يقدر الإعلام على إنكار وقوعها هي هزيمة العدو الإسرائيلي ..