“قانون البندقية والضمير”.. كيف يحل “العُرف القبلي” اليمني ما تعجز عنه المحاكم؟ (الجزء الثامن)
يمانيون|أعد المادة للنشر: محسن علي
تواصلا لسلسلتنا المعمقة حول منظومة التحكيم القبلي اليمني، يتناول هذا الجزء الثامن الآليات الإجرائية التي تشكل العمود الفقري لأي حكم عرفي, ننتقل من الإطار النظري إلى التطبيق العملي، محللين بدقة “صفات التحكيم” الثلاث: التحكيم المطلق، التحكيم باشتراط المنهى، والتحكيم باشتراط الوفاء، مع توضيح الفروق الجوهرية بين ما هو “مسنون” وما هو “غير مسنون” في العرف, كما نقدم تحليلاً تفصيلياً لـ”قاعدة التحكيم” المكتوبة، باعتبارها الوثيقة القانونية الملزمة، مستعرضين شروطها الشكلية والموضوعية, وأخيراً، نتناول مفهوم “الثقل المسنون للحكم والعدال”، ونوضح دوره كضمانة تنفيذية لا غنى عنها، ومراحل تثقيله التصاعدية لضمان سوق الحقوق وإنفاذ الأحكام.
صفات التحكيم :
التحكيم المطلق
هو تحكيم الغريم الغريمه ، أو تحكيم طرفي الخلاف لطرف ثالث : بصفة ماله أو مالهم إلا ما حكم به المحكم ، أو بصيغة تحكيم مطلق ) بمعنى: أن هذه الصفة تدخل في نوعي التحكيم) : وهذا تحكيم شائع في أوساط المجتمع القبلي ، وغير القبلي.
وهذه الصفة من التحكيم ليست مسنونة في قواعد العرف القبلي : لما لها من تبعات غوى وظلم وحيل وميل ، يرتكبها البعض من المحكمين : والذي قد يستند في ظلمه إلى هذه الصفة من التحكيم : محتجا إن بيده قاعدة تحكيم مطلقة.
وقد يعتقد الكثير من المحكمين ، أو من الغرماء أن هذه الصفة ، تعطي الحق للمحكم بالحكم كيفما شاء ومتى شاء ، وإن الغريم أو الغرماء لا يستطيعون استئناف الأحكام التي تبنى على صفة التحكيم المطلق : وهذا خطأ شائع وليس بالأمر الصائب.
فالعرف القبلي أساسه العدل ، ولا يرضى بأي ظلم على الإنسان : مهما كانت المبررات والأسباب ، وقد شرعت قواعد العرف القبلي استئناف تلك الأحكام المبنية على الرضا ، أو التحكيم المطلق : عبر نظام التعكيز للمحكم من أي غريم يدعى الظلم ، أو الجور في الحكم، ويكون تعكيز المحكم إلى يد منشد عُرف : للنظر في الظلم أو المخالفة التي يدعيها الغريم في حكم المحكم ، ويتم كسر (تعديل) الحكم من قبل المنشد العرفي إن ثبت فيه ظلم أو مخالفة ، أو جبره (تاييده) في حال كان حكم المحكم صائبا ، وبني على مسنون قواعد العرف القبلي.
التحكيم باشتراط المنهى
هو تحكيم الغريم لغريمه ، أو تحكيم الغرماء لطرف ثالث : بصفة ولى أو ولنا المنهى على حكم المحكم : بمعنى: إن هذه الصفة تدخل في نوعى التحكيم.
واشتراط المنهي هي الصفة المسنونة في قواعد العرف القبلى : والتى تضمن عدالة المحكم ، وعدم تهوره بالظلم ، أو مخالفته لقواعد العرف.
ومن طلب اشترط) المنهى في التحكيم من الأطراف ، فالقول قوله : لأن ذلك يضمن حق الاستئناف للحكم العرفي بكل تسلسل درجاته الاستئنافية المحددة عرفا.
التحكيم باشتراط الوفاء
تشترط هذه الصفة من التحكيم : في حال تحكيم الغريم لغريمه فقط ، ولا تشترط على المحكم في حال تحكيم الغرماء لطرف ثالث : بمعنى: إن هذه الصفة تدخل في نوع واحد من التحكيم : وهو التحكيم المباشر.
فالاشتراط بالوفاء صفة مسنونة في العرف القبلي ، وهي من الطرق المختصرة لفض النزاعات بين الغرماء.
واشتراط الوفاء: بمعنى اشتراط الذمة (اليمين) من قبل الغريم الذي يقوم بتحكيم غريمه : وذلك بأن يمض فيها المتحكم بعد إصدار حكمه : يمين القطع ، أو اليمين على شرعها ومثلها لو إن غريمه حيث هوه ، وهو حيث غريمه ، وحكم غريمه بهذا الحكم لقبل بذلك الحكم.
وهذه الصفة من التحكيم : قد تكون بين شخص وشخص ، أو جماعة وجماعة ، أو قرية وقرية ، أو قبيلة وقبيلة.
والأحكام التي تبنى على صفة اشتراط الوفاء ، لا تستنهى عُرفا : لأنها ربطت بالذمم ، فما على المتحكم إلا إصدار حكمه والمضي في العهد (اليمين) ، وبعد المخيل في العهد ينفذ الحكم مباشرة.
قاعدة التحكيم:
المفهوم العرفي القاعدة التحكيم
هي وثيقة تكتب خطيا ، يوضح فيها نوع وصفة وصيغة التحكيم، ونقطة الخلاف ، وتسمية الأطراف والمحكم أو المحكمين، والتى يبنى بموجبها الحكم الفرع القبلي.
ولا يكون أي حكم عرفي صحيحا : ما لم يكن مبنيا على قاعدة تحكيم خطبة سواء كان التحكيم من غريم لغريمه، أم في حال تحكيم طرفي الخلاف لطرف ثالث.
ولا يكفي وضع طروح تحكيم لإصدار الحكم العرفي : ما لم يتبع تلك الطريح صياغة قاعدة تحكيم خطية ، كما لا يصح كتابة قاعدة تحكيم : ما لم يسبقها وضع طروح تحكيم أو طروح عدال.
شروط صياغة قاعدة التحكيم
القاعدة التحكيم العرفية شروط مسنونة ، يجب أن تتضمنها وثيقة القاعدة عند صياغتها : وهذه الشروط : كالتالي:
– تسمية اطراف الخلاف
– تحديد نقطة الخلاف
– تسمية المحكم أو المحكمين .
– حق اشتراط المنهى (وإن حل التراضي جاز)
-تسمية طروح التحكيم، وعددها عند تحكيم الغريم لغريمه
-تسمية طروح العدال، وعددها في حال تحكيم الغريمين لطرف ثالث
-تحديد تاريخ وثيقة قاعدة التحكيم
-تحديد اسم كاتب الوثيقة ، وتوقيعه عليها
-توقيع طرفية الخلاف على القاعدة في حال تحكيم الغريمين الطرف ثالث
-توقيع الغريم المحكم لغريمه على القاعدة في حال التحكيم المباشر من الغريم الغريمه
-شاهدان على وثيقة القاعدة، وتوقيعاتهم عليها أن تذكر فيها هذه الصيغة (حسب المسنون في قواعد العرف القبلي)
هذه هي الشروط المسنونة : التي يجب أن تتضمنها وثيقة قاعدة التحكيم العرفي.
الثقل المسنون للحكم والعدال
تعتبر طروح التحكيم ، وطروح العدال : هي الضامن الأساسي لتنفيذ الأحكام العرفية القبلية ، وسوق المواقف : سواء في نوع التحكيم المباشر من الغريم الغريمه : والذي يكون بواسطة طروح الحكم ، أم في نوع تحكيم الغريمين لطرف ثالث : والذي يكون بواسطة طروح العدال، وتوضع هذه الطروح قبل صياغة قاعدة التحكيم : بحيث يلزم تضمين عدد طروح الحكم ، أو العدال ونوعها في القاعدة.
ومن المسنون عرفا : أن يكون عدد طروح الحكم أو العدال المبدئية : مساويا لعدد الفروع المسنونة اللازمة في القضية ، وفي حال انعدام ما يوجب الفروع : فأنها تبدأ طروح الحكم أو العدال : بوضع قطعة أو قطعتين من السلاح الشخصي (سلاح العصر) فتثقيل الطروح (الحكم أو العدال) ، يتم بحسب حجم القضية ، وبما يضمن تنفيذ الموقف وتسريح الحكم ، ومساق الأجرة في حال تحكيم طرف ثالث ، ويسن عُرفا تثقيل الطروح، حتى يصل الثقل إلى مقدار ثلاثة أضعاف الطروح المبدئية ، وبما يضمن ضعفي ما تقرر في الحكم.
مراحل تثقيل الحكم أو العدال
المرحلة الأولى
يتم طلب الثقل : بعد كتابة وتوقيع قاعدة التحكيم مباشرة
المرحلة الثانية
يتم طلب الثقل : عند وجود مطاولة ، أو مماطله ، أو تلاعب من طرف واحد أو من الطرفين ، أو بحسب ثقل مضمون دعاوى الأطراف.
المرحلة الثالثة
يتم طلب الثقل : قبل النطق بالحكم : ليصل الثقل إلى مقياس الضعف للحق المحكوم به ، وضعف الأجرة اللازمة في حال تحكيم طرف ثالث.
*المرجع: كتاب قواعد العرف القبلي المسنونة والغصابة لقبائل اليمن, للشيخ صالح روضان.