خطى تتحدى الزمن .. قصة شيوخ اليمن الذين أبَوا أن يتركوا الساحات فارغة

على امتداد الشوارع المؤدية إلى ميدان السبعين في صنعاء، حيث كانت تتدفق الحشود كأنها نهر بشريّ متواصل، مليونيات متتالية وثّقتها عدسات الاعلام المحلي والعربي والدولي،، أكدت حضورًا شعبيًا واسعًا من مختلف فئات المجتمع، وإلى مشاركة ’’ الشيبات’’ كما نقول في لهجتنا الدارجة، من كبار السن، ورغم تقدم أعمارهم ’’في هذه المسيرات الضخمة’’ ، لكن خلف هذه الصورة العامة، تختبئ عشرات القصص الإنسانية لرجال تجاوزوا السبعين والثمانين، تحدّوا أمراض المفاصل وضعف النظر وصعوبات الحركة، وواصلوا حضورهم في الساحات لأكثر من عامين.

يمانيون / خاص

 

هذا الاستعراض يستند إلى هذه الحقائق الميدانية، ويقدّم سردًا إنسانيًا يمثّل نموذجًا حقيقيًا لطبيعة مشاركة كبار السن في المسيرات المليونية ، ليعكس ما أشارت إليه المصادر الصحفية من حضور كبار السن، وما أكدته التقارير الإنسانية على الرغم من معاناتهم اليومية.

 

هم شيوخٌ بين الحشود .. ولكن أصواتهم لا تشيخ

حين كانوا يسيرون ببطء، يجرّون أقدامهم، كما لو أنهم يرفعون الصخور، مستندين إلى عصيهم الخشبية التي طالما رافقتهم في سنوات الشيخوخة، كانوا رمزًا لحضور فتي لم تُهمل قصصهم في خضم التغطيات الإخبارية.
من منازلهم الممتدة في شوارع وأحياء أمانة العاصمة وحتى مديريات محافظة صنعاء وقبائلها الأبية، كانوا كل يوم جمعة، يسابقون الشباب على مقدمة الصفوف في الساحات ، وفي الطريق يسأل أحدهم حفيد ينظر بعين الوقار إلى جده ، إلى أين نحن ذاهبون يا جدي؟؟ ويجيبه بابتسامة تحمل عنفواناً وطمأنينة في آن واحد: ( إلى حيث يذهب اليمني حين يجيب داعي الله) ،

كل الكاميرات تلاحقهم وكل القنوات تستضيفهم، وفي اليوم الثاني يتصدرون عناوين الصحف بعنوان رئيسي : كبار السن رغم تقدم أعمارهم خرجوا إلى المسيرات معبّرين عن موقفهم،

 

إرادةٌ في مواجهة الأجساد المنهكة

تشير تقارير إلى أن كبار السن في اليمن هم من أكثر الفئات معاناة بسبب نقص الدواء والغذاء والرعاية الصحية،  ورغم ذلك، يظهرون في مشاهد المليونيات كما لو أنهم يؤكدون للعالم أن روح الإنسان قادرة على أن تتجاوز هشاشة الجسد.
كان شيوخ اليمن بأعناق تطاول عنان السماء يقدمون نموذجًا حيًا لهذه الحقيقة،  يعانون من تصلب في مفاصل الركبة ومن ضغط الدم، ويحتاجون إلى فترات طويلة للراحة بين كل مشية وأخرى، لكن حين تقترب أيام المسيرات، كانوا يستعيدون، بشكل يكاد يكون معجزًا، نشاطًا لا يتوقعه حتى أهلهم وذويهم.

في إحدى المسيرات، بينما كان أحد هؤلاء العظماء من كبار السن يشق طريقه وسط الزحام، توقف ليلتقط أنفاسه، اقترب منه شاب في العشرينات، عرض عليه المساعدة، لكن الشيخ ابتسم وأشار له بالعكاز قائلاً: ( يا ولدي .. هذه العصا لا تزال في يدي، وقلبي لا يزال ينبض في صدري ، كل شيء عيسبر .. ) ، يقول هذا الشاب : جعلني هذا الشيخ أخجل من نفسي ، بينما أنا أعرض عليه المساعدة ، تلقيت منه المساعدة ، وأدركت أنه لا تقاس عظمة المواقف بالسن ، بل بالإيمان وقوة الإرادة .

 

عامان من الحضور .. ورسالة لا تخطئها العين

التقارير الإعلامية، من وكالة سبأ، ومن قناة المسيرة التي غطّت خروج الحشود في كل الساحات ، واستمرار الفعاليات والتجمعات الشعبية على مدى عامين،  كان كبار السن جزء من كل الفئات اليمنية الذين جعلوا من هذا الاستمرار ممكنًا.
لم يكن غالبيتهم يملكون سيارات تقلهم، لكنهم كانوا يصرون على الوصول إلى الساحة، يرفعون الشعارات عاليًا، عامان كاملان وهم يفعلون الشيء نفسه، عامان من خطى الصمود والتحدي وقهر الوجع والتعب ، والنبض الصادق، والانتماء الذي لا يضعف.

 

أبناء وأحفاد .. وقصة تنتقل بين الأجيال

لطالما تكرر مشهد كبار السن وهم يحملون أحفادهم على اعناقهم أو يمسكون بأياديهم في صورة تعكس رمزية الرسالة التي يحرص هؤلاء العظماء أن يورثوها لجيل الغد، صورة تحمل معاني الصمود والتحدي والثبات على المواقف ، وهذا الدور العظيم لكبار السن في المجتمع اليمني يشكل ركيزة إجتماعية وأخلاقية تمتد عبر الأجيال .

 

ختاماً 

لا تحتاج قصص الصمود دائمًا إلى بندقية أو منصة أو قرار سياسي، أحيانًا يكفي شيخ تجاوز السبعين، يمسك بعصاه، يمشي خطوة  خطوة ، ليقول للعالم إن اليمني، مهما أرهقته الظروف، يظل قادرًا على الوقوف.

وتكفي هذه الخطى المرتجفة، التي وثّقتها عيون المشاركين ووسائل الإعلام ، أنها أصبحت جزءًا من التاريخ الشعبي للمليونيات التي شهدتها اليمن خلال العامين الماضيين.

You might also like