تحولات الكفاح الوطني في جنوب اليمن.. من جحيم الاحتلال البريطاني إلى لحظة الجلاء في 30 نوفمبر
يمانيون | تقرير
مع حلول الذكرى الثامنة والخمسين لجلاء الاحتلال البريطاني عن جنوب الوطن، تعود ذاكرة اليمنيين إلى مرحلة طويلة من النضال، حفلت بدماء الشهداء وتضحيات المقاومين، وارتسمت على جدران التاريخ كصفحة فارقة في مواجهة أطول استعمار عرفته المنطقة.
لم يكن الرابع عشر من أكتوبر 1963 ولا الثلاثين من نوفمبر 1967 مجرد تاريخين مفصليين في تاريخ اليمن، بل كانا محطات تتويج لمسار طويل من القهر والاستعباد قاومه اليمنيون بإصرار حتى استعادوا استقلالهم.
لقد كانت تلك اللحظات التي تحققت فيها آمال الشعب اليمني بالتحرر والانعتاق من نير الاحتلال البريطاني، بعد صراع طويل ومرير.
يقدم هذا التقرير قراءة تحليلية موسعة لمسار الاحتلال البريطاني، سياساته، تشكل الحركة الوطنية، وتحولات الكفاح حتى لحظة الجلاء النهائي.
بدايات الأطماع البريطانية ومسار ترسيخ الاحتلال
منذ القرن الثامن عشر، بدأت بريطانيا تنظر إلى اليمن باعتباره موقعًا حيويًا لربط خطوط تجارتها وإمبراطوريتها الممتدة.
وكان ميناء عدن الهدف الأبرز. ومع تأسيس أول حامية عسكرية فيه، بدأ التمهيد لاحتلال مباشر، تبعه توغل محدود في سقطرى بين أعوام 1834–1835.
ثم جاءت العملية العسكرية التي أسقطت عدن مطلع 1839، بعد حصار بحري شرس واجهته المدينة بقتال غير متكافئ، سقط خلاله 139 شهيدًا.
ورغم التضحية الكبيرة، استطاعت بريطانيا كسر دفاعات المدينة، لكن إرادة الاستعادة لم تتوقف إلا بعد أن فرضت معاهدة فبراير 1843 واقع الاحتلال رسميًا.
هذه المعاهدة مهّدت لتوسع النفوذ البريطاني خارج عدن تدريجيًا، فدخلت السلطنات الجنوبية في دوامة طويلة من “الاحتلال غير المباشر” عبر اتفاقيات حماية وتبعية.
وبذلك، لم تكن الجيوش البريطانية بحاجة لوجود مكثف في المناطق الجنوبية، حيث وفرت بعض السلاطين الخونة للشعب اليمني شبكة نفوذ راسخة، مما مكّن بريطانيا من استغلال حالة التفتت السياسي والاجتماعي في جنوب اليمن.
سياسة التفتيت والسيطرة ونشأة المقاومة المبكرة
اتبعت بريطانيا سياسة استعمارية تقوم على تفتيت البنى الاجتماعية والثقافية بهدف تكريس التبعية، وفرض نموذج إداري يضمن سيادتها المطلقة على الموانئ والممرات الحيوية.
وكانت سياسة بريطانيا تعتمد على إبقاء السلاطين حكامًا صورياً يدارون فعليًا عبر ضباط بريطانيين، مع منع أي تواصل بين السلطنات بعضها البعض أو بينها وبين شمال اليمن الخاضع حينها للاحتلال العثماني.
لكن هذه السياسات لم تخلُ من تداعيات اجتماعية خطيرة، إذ غذّت حالة الانقسام الاجتماعي والتوتر السياسي في جنوب اليمن، خاصة مع الامتيازات الاقتصادية التي كانت تُمنح لجاليات أجنبية مرتبطة بميناء عدن مثل اليهود والهنود والآسيويين.
إلا أن بذور المقاومة بدأت تتشكل مبكرًا في الريف الجنوبي، حيث رفض العديد من اليمنيين هذا الوضع، خصوصًا بعد سقوط محاولات الانتفاضات الأولى.
وتجدَّدت المواجهة في عام 1922 عندما رفض الإمام يحيى حميد الدين اتفاق تقسيم اليمن بين العثمانيين والبريطانيين، فشن الاحتلال غارات جوية على شمال اليمن، مستفيدًا من دعم السلاطين في بعض الأحيان.
صعود الحركة الوطنية وتلاقي المسارين السياسي والمسلح
في الأربعينات والخمسينات من القرن العشرين، شهدت مدينة عدن بروز حركة سياسية مطلبية واسعة، تقودها نقابات عمالية وقوى اجتماعية مدنية نشطت في مواجهة الظلم الاستعماري.
وفي الوقت ذاته، كانت حركة الكفاح المسلح تنمو في الأرياف الجنوبية، حيث تلقت دعمًا من بعض المناطق المحاذية للشمال.
لم تكن هذه الحركات حكراً على فئة أو منطقة معينة، بل شارك فيها يمنيون من الشمال والجنوب ومن مؤمنين بفكرة التحرر والوحدة. هذا التلاقي أنتج حركة وطنية متنوعة الجذور، سرعان ما تطورت إلى ثورة شاملة، حيث تجسدت في الأحزاب السياسية الرئيسية التي ظهرت في الساحة السياسية، أبرزها:
-
حزب الشعب الاشتراكي الذي تبنى مشروع الدولة القطرية بعد خروج الاحتلال.
-
الجبهة القومية التي تبنت مشروع تحرير الجنوب بالقوة وتحقيق الوحدة اليمنية.
ورغم اختلاف الرؤى، اجتمعت القوتان مرحليًا تحت مظلة “جبهة التحرير”. لكن الاختلافات الفكرية سرعان ما ظهرت وبرزت لاحقًا في إدارة مسار الثورة.
تفجير الثورة وتوسع جبهات القتال حتى لحظة الجلاء
أرخت الجبهة القومية انطلاقة الثورة في 14 أكتوبر 1963، حينما اندلعت انتفاضة ردفان. بينما أرخ حزب الشعب الاشتراكي انطلاقة الثورة في 1 ديسمبر 1963، عندما ألقى أحد مناضليه قنبلة على الحاكم البريطاني في مطار عدن فقتله.
بين الحدثين، تصاعدت المواجهة بشكل غير مسبوق.
تمددت جبهات القتال في عامين فقط من ردفان إلى الضالع، ثم الحواشب وحالمين، فالحج والصبيحة وبيحان والعوالق وغيرها. باتت الريف والمراكز القبلية ساحة مفتوحة للمقاومة المسلحة، التي حاصرت الوجود البريطاني وأفشلت سياساته العسكرية والتجزيئية.
مع نهاية عام 1966 وبداية 1967، بدأت بريطانيا تدرك استحالة استمرار الاحتلال، خاصة مع الضغوط الداخلية البريطانية وأعباء المشاركة في صراعات عالمية.
سعت بريطانيا إلى تنظيم “خروج آمن” يقلل خسائرها، لكن الانهيار كان أسرع من ترتيباتها. وفي 30 نوفمبر 1967، غادر آخر جندي بريطاني أرض اليمن، معلنًا ميلاد الاستقلال الثاني في تاريخ البلاد.
ختاماً
لم يكن جلاء الاحتلال البريطاني عن جنوب اليمن مجرد نهاية مرحلة استعمارية، بل كان لحظة انتصار لإرادة شعب قاوم أكثر من 128 عامًا من القهر والتقسيم والعدوان.
تتجدد هذه الذكرى اليوم كتذكير بقيمة الحرية ووحدة الأرض والهوية، وكشاهد على أن المقاومة الشعبية، مهما طال الزمن، قادرة على إسقاط أعتى الإمبراطوريات.
إنها محطة يستعيد فيها اليمنيون ملامح نضالهم العريق، ويجدّدون التأكيد أن سيادة الوطن لا تقبل المساومة، وأن الشعوب التي تنتصر مرة قادرة على حماية مكتسباتها مهما تبدلت الظروف.