ثورة 14 أكتوبر… ملحمة يمنية خالدة ومستمرة في وجه الاستعمار القديم والجديد

في الرابع عشر من أكتوبر، يقف اليمنيون وقفة فخر واعتزاز، إحياءً لذكرى الثورة المجيدة التي انطلقت من جبال ردفان في جنوب اليمن عام 1963، لتعلن بدء مرحلة الكفاح المسلح ضد الاحتلال البريطاني الذي جثم على صدر الجنوب لأكثر من 129 عامًا، لم تكن ثورة 14 أكتوبر مجرد انتفاضة عابرة، بل محطة تاريخية فارقة جسّدت البأس اليمني والإصرار الشعبي على تحرير الأرض وصون الكرامة، وأثبتت أن اليمنيين مهما طال صبرهم لا يرضخون لاحتلال، ولا يساومون على سيادتهم، وأن اليمن كانت وستظل مقبرة لكل غازٍ ومعتدٍ.

يمانيون / تقرير / خاص

 

بدأ الاحتلال البريطاني لعدن عام 1839، بذريعة تأمين خطوط الملاحة إلى مستعمرات التاج البريطاني في الهند، إلا أن الواقع سرعان ما كشف عن أطماع استعمارية توسعية، حيث قسمت بريطانيا جنوب اليمن إلى سلطنات وإمارات خاضعة لنفوذها، محاوِلة السيطرة على الجغرافيا عبر التفريق بين مكوناته، ومع تصاعد حركات التحرر في المنطقة العربية، بدأت تتبلور داخل الجنوب بذور الوعي الوطني، وكان لثورة 23 يوليو في مصر أثر بالغ في إلهام النخب والمقاومين اليمنيين، حيث توالت الإضرابات والمظاهرات، وتشكلت التنظيمات السرية المقاومة، مثل الجبهة القومية لتحرير جنوب اليمن المحتل، وجبهة التحرير، اللتان قادتا العمل الفدائي ضد الاستعمار.

وجاءت الشرارة الكبرى يوم 14 أكتوبر 1963، عندما أطلق الشهيد راجح بن غالب لبوزة الرصاصة الأولى من جبال ردفان، معلنًا انطلاق الكفاح المسلح، لتدخل البلاد مرحلة جديدة من المقاومة المنظمة، انتهت برحيل آخر جندي بريطاني من عدن في 30 نوفمبر 1967.

 

المكانة الاستراتيجية لجنوب اليمن وأهميتها للتجارة العالمية

لم يكن اهتمام الاحتلال البريطاني بجنوب اليمن عبثيًا، فعدن تحديدًا تمتاز بموقع استراتيجي فريد على مقربة من مضيق باب المندب، أحد أهم الممرات البحرية الدولية، والذي يربط البحر الأحمر بالمحيط الهندي، ويمثل شريانًا حيويًا لحركة التجارة العالمية، وخاصة الملاحة بين آسيا وأوروبا عبر قناة السويس.

هذا الموقع الجغرافي منح الجنوب أهمية استراتيجية كبرى، جعلته هدفًا دائمًا للقوى الكبرى، خصوصًا مع احتوائه على موانئ طبيعية وموارد متعددة، وقد استغلت بريطانيا هذا الموقع لإنشاء واحدة من أهم القواعد العسكرية والبحرية في العالم، مما زاد من إصرار اليمنيين على تحرير أرضهم ذات السيادة والموقع الفريد.

 

البأس اليمني في مواجهة الاحتلال الأجنبي

سجل التاريخ لليمنيين مواقف بطولية في مقاومة مختلف أشكال الاحتلال الأجنبي، سواء في الجنوب أو الشمال، وقد أثبت الشعب اليمني في ثورة 14 أكتوبر، كما في كل مراحل نضاله، أن بأسه لا يُقهر، وأن إرادته الصلبة قادرة على كسر أعتى قوى الاستعمار.

واجه المقاومون في الجنوب آلة استعمارية بريطانية ضخمة، مدعومة بالخبرات العسكرية والغطاء الدولي، إلا أنهم بصبرهم ووحدتهم وتضحياتهم أفشلوا مخططات الاحتلال، وحوّلوا الجبال والسهول إلى ساحات مقاومة ضارية.

إن البأس اليمني ليس مجرد شجاعة في الميدان، بل عقيدة وطنية راسخة تؤمن بأن الأرض لا تُفرّط، والسيادة لا تُساوم، وهو ذات البأس الذي سيتجدد في وجه كل من تسول له نفسه احتلال شبر من تراب اليمن، شماله أو جنوبه، شرقه أو غربه، فهذه الأرض كانت وستظل مقبرة للغزاة.

 

الرابع عشر من أكتوبر .. نار ملتهبة ستحرق آمال المستعمرين الجدد 

يشهد الجنوب اليوم واقعًا ميدانياً لا يمكن إنكاره، وهو عملياً واقع تحت الاحتلال والوصاية العملية التي تمارسها السعودية والإمارات، عبر قواعد عسكرية وتدخلات أمنية وسياسية واقتصادية أفضت عمليًا إلى إخضاع أجزاء واسعة من الأرض لوقائع جديدة تديرها مصالح هذه القوى، ولا يخفى على أحد أن هناك أهدافًا استعمارية واضحة تتمثل في التحكم بالموانئ والممرات البحرية، واستغلال الموارد، وفرض وقائع استراتيجية تُخدم مصالح حلفاء غربيين وإقليميين وفي مقدمتها أمريكا وبريطانيا وكيان العدو الإسرائيلي ، على حساب سيادة الشعب اليمني في جنوب الوطن.

وتمارس السعودية والامارات أشكالاً مختلفة في استعمارها الجديد لجنوب الوطن، من إبرام عقود استثمارية وصفقات شُرعَت دون مشاركة مجتمعية حقيقية، ومن تحكّم في مؤسسات محلية وأمنية، ما أثر على حياة المدنيين ونهب موارد اقتصادية حيوية، هذه الوقائع أثارت غضبًا شعبيًا عارمًا وبيانات احتجاجية من أحزاب ومجتمعات محلية تطالب بالانسحاب الفوري لجميع القوات الأجنبية وإلغاء الاتفاقات التي تمت دون موافقة ممثلي المجتمع في جنوب اليمن، وتتوالى المطالبات الحرة بإجراءات استعادة السيادة، وإجراء تحقيقات مستقلة لمحاسبة المتورطين في التواطؤ من المرتزقة، واسترجاع السيطرة على الموانئ والموارد والقرارات الاقتصادية، وبالعودة إلى التاريخ وعنفوان ثورة أكتوبر المجيدة ، فإن هذا الواقع لن يطول لأن صبر اليمنيين له حدود ، وسيقول أحرار اليمن الحر كلمتهم وسيخرج كل طامع ومحتل وهو يجر أذيال الهزيمة لأن روح الرابع عشر من أكتوبر لا تزال نار ملتهبة ستحرق آمال الغزاة والمحتلين الجدد كما أحرقت جلود المحتل البريطاني .

 

دروس الثورة ورسالتها الخالدة

لقد قدمت ثورة 14 أكتوبر نموذجًا حيًا لمعنى الإرادة الوطنية، والتلاحم الشعبي، والقدرة على تحقيق المستحيل رغم ضعف الإمكانات، وهي تذكّر اليوم، في ظل ما يعيشه اليمن من تحديات، أن لا سيادة تُنتزع إلا بالتضحيات، ولا وطن يُبنى إلا على أسس من الاستقلال الكامل، والقرار الحر، والتماسك الشعبي.

الرسالة التي تبعث بها هذه الذكرى اليوم هي أن اليمن ليس ساحة فراغ، ولا أرضًا سائبة، بل وطن عزيز برجاله ونسائه، لا يقبل الوصاية، ولا يرضى بالاحتلال، مهما تنكرت الشعارات أو تغيرت الوجوه.

 

الخاتمة

بحلول ذكرى الرابع عشر من أكتوبر، يُجدّد اليمنيون عهد الوفاء للشهداء والمناضلين، ويؤكدون أن راية الاستقلال والكرامة ستبقى خفاقة، وأن من حاول بالأمس السيطرة على عدن، وسقط، لن ينجح اليوم في تقسيم الأرض أو إخضاع إرادة الشعب، وستظل ثورة 14 أكتوبر رمزًا للمجد، ودليلًا على أن الشعوب التي تعرف طريق الحرية، لا تعود منه أبدًا، مهما تعثرت الخطى أو كثرت التحديات.

You might also like