“قصر سيئون”.. الرهينة الأخيرة في حرب تقاسم النفوذ.. هل تدمر الإمارات والسعودية مفخرة حضرموت الطينية؟

يمانيون|محسن علي
يعتبر قصر مدينة سيئون، سجل تاريخي مفتوح يروي فصولاً هامة من تاريخ اليمن ومحافظة حضرموت المحتلة التي (خضعت مؤخرا تحت سيطرة الفصائل المسلحة لتحالف العدوان الأمريكي السعودي الإماراتي)، ضمن صراع تقاسم النفوذ القائم للسيطرة على المحافظة الغنية بالنفط، شاهداً على تاريخ عريق يمتد لأكثر من خمسة قرون كتحفة تاريخية معمارية فريدة، ومفخرة للعمارة الطينية العربية واليمنية، حيث يُصنف كأحد أكبر وأندر المباني المشيدة بالكامل من طوب اللبن في العالم.

الدور المحوري لبراعة المعمار اليمني
هذا الصرح العظيم المعروف ايضا باسم قصر الكثيري او الحصن الدويل، تؤكد عمارته الطينية الشاهقة براعة المعمار اليمني القديم، وتجسد قدرة الإنسان على بناء صروح خالدة باستخدام أبسط المواد، حيث لعب دوراً محورياً في تاريخ المنطقة، بعد أن كان مقراً لحكم سلاطين الدولة الكثيرية، ومحوراً للحياة السياسية والاجتماعية في حضرموت الوادي.

النشأة والتاريخ
من حصن دفاعي إلى قصر سلطاني يعود تاريخ قصر سيئون إلى فترة مبكرة، حيث تشير المصادر إلى أن الموقع كان في الأصل عبارة عن حصن دفاعي أو قلعة حصينة، وقد عُرف القصر في بداياته باسم “الحصن الدويل”، وهو الاسم الذي ظل يُطلق عليه طوال خمسمائة وأربعين سنة، عاصر خلالها مراحل مختلفة من الدولة الكثيرية.

البناء والتأسيس (القرن التاسع الهجري)
يُرجح أن البناء الأصلي للقصر يعود إلى عام 814 هجري (الموافق للقرن الخامس عشر الميلادي)، وقد استغرق بناؤه فترة طويلة، قُدرت بـ 15 سنة، و تشير بعض الروايات إلى أن القصر لم يكن في الأصل ملكاً لسلاطين آل كثير، بل بناه أحد التجار الحضارمة العائدين من إندونيسيا، والذي أهداه لاحقاً لأحد حكام المنطقة.

عهد السلطان بدر أبو طويرق
في (القرن العاشر الهجري) شهد القصر نقطة تحول كبرى في عهد السلطان بدر بن عبد الله الكثيري، المعروف بـ “أبو طويرق” ففي عام 922 هجري (أو 992 هجري حسب مصادر أخرى)، اتخذ السلطان بدر القصر مقراً لإقامته بعد أن قام بتجديد عمارته، وبنى بجانبه مسجداً ومنذ ذلك الحين، أصبحت مدينة سيئون عاصمة للدولة الكثيرية، وتحول الحصن إلى قصر الحكم ومقر السلطنة.

 

التطورات اللاحقة
في (القرن الرابع عشر الهجري) وعلى مر القرون، خضع القصر لعدة تجديدات وإضافات، ويُعتقد أن الشكل الحالي الذي يظهر به القصر يعود إلى التجديدات التي تمت في عهد السلطان علي بن منصور الكثيري في أوائل القرن العشرين (القرن الرابع عشر الهجري)، حيث أضيفت إليه لمسات معمارية زادت من فخامته.

 

أكبر مبنى طيني في العالميُ
عد قصر سيئون مثالاً مبهراً على العمارة الطينية العربية، وهي تقنية بناء تقليدية اشتهرت بها منطقة حضرموت،  كما يُصنف  أحد أكبر الهياكل المبنية من الطوب اللبن في العالم ويتكون  من سبعة طوابق، بينما يصل ارتفاعه إلى حوالي 35 متراً، مما يجعله معلماً بارزاً في المدينة.

 

المواد والتقنية المادة الأساسية
بني القصر على أرض صخرية، مما منحه متانة وقوة رغم طبيعة مادته الطينية من (الطين المخلوط بالتبن والمجفف في الشمس)، وهي مادة طبيعية تتكيف مع المناخ الصحراوي الحار في وادي حضرموت، حيث توفر برودة نسبية في الداخل ويتميز القصر بلونه الأبيض الناصع، وأقواسه وزخارفه الهندسية المعقدة التي تزين واجهته، كما يعتبر أيقونة للعمارة الطينية، يجذب اهتمام المعماريين والباحثين حول العالم لدراسة تقنيات البناء المستدامة في البيئات الصحراوية.

وظائف القصر
لم يكن القصر مجرد مقر للحكم وحسب، بل كان مجمعاً متعدد الوظائف يشابه ما يطلق عليه اليوم بـ ( المجمع الحكومي) إذ كان يضم مكاتب السلطان وأجهزة الدولة الكثيرية وإدارتها، كما أنه يحتوي على أجنحة خاصة لسكن السلطان وعائلته،  وكذلك يتمتع بالعديد من الأبراج ومواقع المراقبة.

الحصن الدفاعي
بعد نهاية حكم السلاطين، تحول القصر إلى متحف ومكتبة عامة تخدم الباحثين والمهتمين، حيث يضم مجموعة كبيرة من الآثار والمخطوطات التي تحكي تاريخ المنطقة، وشاهدا حياً على تاريخ حضرموت السياسي والمعماري، بل كان يمثل أيضا رمزاً للسلطة والاستقرار خلال فترة حكم الدولة الكثيرية التي سيطرت على أجزاء واسعة من وادي حضرموت.

 

خطر الانهيار
على الرغم من عظمته التاريخية والمعمارية، يواجه قصر سيئون اليومزتحديات خطيرة تهدد بقاءه منها العوامل الطبيعية حيث تُعد الأمطار الغزيرة والسيول، التي تضرب وادي حضرموت بشكل دوري، الخطر الأكبر على القصر المبني من الطوب اللبن، كونه يتأثر بالرطوبة والماء، مما يؤدي إلى تآكل أساساته وجدرانه، وبالتالي فهو يعاني سنوات من الإهمال ونقص التمويل اللازم لأعمال الصيانة والترميم الدورية وفي أمس الحاجة إليها لإنقاذ هذا المعلم التاريخي من الانهيار.

 

صراع النفوذ.. القصر في مرمى الفصائل المسلحة
يُضاف إلى التحديات الطبيعية والمعمارية خطر جديد يهدد قصر سيئون، وهو خطر التوظيف السياسي والعسكري لهذا المعلم التاريخي في سياق صراع النفوذ الدائر بين النظامين السعودي والإماراتي وأدواتهم من المرتزقة في حضرموت، فالمحافظة، الغنية بثروات النفط، أصبحت ساحة لتنافس الفصائل المسلحة الموالية لأطراف إقليمية ودولية على رأسها أمريكا والكيان الصهيوني المجرم.

 

القصر كهدف استراتيجيي
ومع أن القصر يقع في قلب المدينة، غير أن الساحة المحيطة به تحولت إلى نقطة تماس وثكنات عسكرية وسياسية، من قبل عصابات مرتزقة الإمارات في الأسابيع المنصرمة، بعد السيطرة عليه، ما يجعله عرضة لخطر القصف أو التدمير العرضي أو المتعمد، كما حدث للعديد من المواقع الأثرية في اليمن، وتمدد هذه الفصائل في محيط القصر يضع هذا الإرث التاريخي في مواجهة مباشرة مع أجندات سياسية وعسكرية لا تعير اهتماماً لقيمته الثقافية، مما يمثل تهديداً وجودياً يضاف إلى تحديات الطبيعة والإهمال.

 

تقاسم النفوذ ونهب الثروات
يرتبط الصراع على السيطرة في حضرموت ارتباطاً وثيقاً بالرغبة في السيطرة على الثروات النفطية والموارد الاقتصادية للمحافظة، وفي هذا السياق، يصبح التراث الثقافي، بما في ذلك قصر سيئون ومحتوياته (متحف سيئون)، عرضة لخطرين هما:النهب والتهريب في ظل غياب سلطة مركزية قوية، تتصاعد عمليات نهب الآثار والمخطوطات، وتنشأ أسواق سوداء لتهريبها وبيعها في مزادات علنية بأسواق العالم ، وهو ما يهدد بضياع الهوية الحضاريةلليمن،كما أن استخدام المواقع التاريخية كـ ثكنات عسكرية أو نقاط مراقبة يعرضها للتدمير، سيما استمرار الفصائل بالصراع على النفوذ يؤدي إلى إهمال متعمد لمتطلبات الترميم والصيانة الضرورية للقصر الطيني.

 

سؤال البقاء في زمن الصراع
بعد خمسة قرون من الصمود أمام عوامل الطبيعة، يجد قصر سيئون نفسه اليوم في مواجهة أخطر تحدياته هو أن يكون الرهينة الأخيرة في حرب إقليمية لتقاسم النفوذ والثروات، فبينما تتسابق الفصائل المسلحة الموالية للإمارات والسعودية للسيطرة على وادي حضرموت الغني بالنفط، يتحول هذا الصرح التاريخي إلى نقطة تماس عسكرية، مهدداً بالتدمير أو الإهمال المتعمد، و بأجندات جيوسياسية لا تعير للتراث أي قيمة.. فهل ستنجح حرب تقاسم النفوذ في تدمير مفخرة حضرموت الطينية،وهد هذا الإرث الحضاري من تاريخ اليمن؟

You might also like