قراءة وجدانية في الخطاب الإلهي للشهيد القائد رضوان الله عليه .. عبودية تستنهض الوجدان قبل الخوف
في سياق خطابٍ قرآني يحمل من العذوبة والعمق الوجداني ما يتجاوز الأوامر الصريحة والتهديدات المباشرة، جاءت الآيتان (21-22) من سورة البقرة لتقدم دعوة للعبادة تنبع من نبع الإحسان والفضل الإلهي، لا من منبع التهديد والقهر. وهذا ما استوقف الشهيد القائد حسين بدر الدين الحوثي (رضوان الله عليه) ليمعن النظر في هذا الخطاب الإلهي الذي يخاطب الوجدان الإنساني، ويزرع التقوى عبر تذكير الإنسان بنعم الله .
يمانيون / تحليل / خاص
عبادة من منطلق الاعتراف بالجميل ![]()
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}
يبدأ الخطاب بنداء عام للناس جميعاً، دون تخصيص لجماعة أو طائفة أو أمة، الشهيد القائد رضوان الله عليه يلفت النظر إلى أن هذه الدعوة إلى العبادة لا تأتي بصيغة التهديد، بل كاستعطاف رقيق قائم على التذكير بنِعَمٍ شاملة لا ينكرها أحد. فالله سبحانه وتعالى هنا يُعرّف ذاته المقدسة من خلال رحمته ورعايته ، {الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} ، دعوة للتأمل في أصل وجودنا ، {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشاً…}، تذكير برعاية مستمرة وشاملة لكل تفاصيل الحياة.
وفي هذا يرى الشهيد القائد أن العبادة هنا تُبنى على “عرفان الجميل”، إذ كيف يليق بمن يعيش في هذا العطاء المستمر أن يُنكر من أسدى إليه النعمة؟
الماء .. رمز العطاء الإلهي المتكرر
أفرد الشهيد القائد مساحة للتأمل في نعمة إنزال الماء من السماء، مشيراً إلى أنه ينزل بلا كلفة من الإنسان، ولا يحتاج إلى أدوات، بل هو عطاء رباني “ينزل بسهولة” فيغمر الأرض ويُخرج منها كل رزق، وهو ما يعبر عنه القرآن ،{وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً.. فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ} ، هذا التسلسل الطبيعي المحكم (ماء → ثمرات → رزق) ليس فقط دليلاً على قدرة الله، بل أيضاً على رحمته واستدامة لطفه بالخلق، إنه لا يذكّرهم بالقوة فقط، بل يلامس وجدانهم من خلال ما يحبونه ويحتاجونه.
العقيدة عبر العاطفة .. خطاب وجداني
يرى الشهيد القائد رضوان الله عليه، أن هذا النوع من الخطاب القرآني يمثل “استعطافًا”، وهو أحد أرقى أشكال البلاغة القرآنية التي تعتمد على مخاطبة الإنسان من حيث هو كائن يقدّر المعروف ويستحي من نكران الجميل، ويدلل على ذلك بقول الإمام زيد عليه السلام : ’’وقسمٌ منه استعطافٌ لعباده’’.
فالله، كما يقول، لم يقل هنا: “اعبدوا ربكم وإلا أحرقكم”، رغم أن العقاب من مصاديق الحقيقة، لكنه لم يقدمه مباشرة، بل قدّم تذكيراً بالعطاء، لأن هذا العطاء بحد ذاته يجب أن يكون دافعًا لعبادة الله.
التقوى والتوحيد .. من مدخل النعمة
{لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}: التقوى هنا لا تُفرض بالرهبة، بل تنشأ من الإدراك العميق لرحمة الله ، {فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} ، نفي الشرك لا يأتي من مجرّد التنبيه العقائدي، بل من منطلق وجداني، أنتم تعلمون من خلق، من رزق، من منحكم ما أنتم فيه من نعم .. فهل يصح أن تجعلوا له شركاء؟
خطاب وجداني يُربّي على الإحسان
الشهيد القائد لا يكتفي بالتحليل اللغوي أو العقائدي، بل يسحب المعنى إلى ساحة الحياة الاجتماعية، كما يخاطب الإنسان ابنه أو صديقه ليذكّره بأفضاله عليه ويطلب منه الوفاء، فإن الله يخاطبنا بالطريقة نفسها، وهذا ما يجعل أثر الخطاب أعظم في النفوس، لأنه ، يخترق حاجز العناد ، ويتجاوز جدران القسوة ، ويخاطب الوجدان المتصل بالمروءة والحياء والاعتراف بالفضل.
بلاغة القرآن في بناء الإيمان عبر النعمة
ما طرحه الشهيد القائد حسين بدر الدين الحوثي رضوان الله عليه هنا ليس فقط قراءة تفسيرية، بل هو تشريح بديع لبُنية الخطاب القرآني من ناحية وظيفته التربوية والوجدانية، فالقرآن في دعوته للعبادة لا يبدأ بالسيف، بل يبدأ بالماء، لا يبدأ بالنار، بل يبدأ بالأرض فراشًا والسماء بناءً، وهذا الخطاب، كما يراه، هو خطاب يربّي الإنسان على تقدير الإحسان، فيتولد من هذا الشعور وجدان يقوده إلى التوحيد، ومن ثم إلى العبادة، فإلى التقوى، بهذا، يثبت الشهيد القائد أن القرآن ليس فقط كتاب أحكام وعقائد، بل كتاب وجدان وتربية، يعرف كيف يصل إلى القلوب عبر دروب النعمة والفضل، قبل أن يطرق أبواب الخوف والعقاب.