الأرض التي لا تُغلب .. ’’اليمن’’ كما لم يعرفه الغزاة
ليست اليمن مجرد بلد على هامش الخريطة، بل هي قلب نابض بتاريخ طويل من المقاومة والعزّة، على مدى قرون، قاومت هذه الأرض كل أشكال الاحتلال والغزو، من جيوش الحبشة والرومان والفرس، إلى الاستعمار العثماني والبريطاني، وصولًا إلى العدوان الحديث بأدواته العسكرية والسياسية والاقتصادية، لكن ما يجمع كل هؤلاء الغزاة عبر الزمن، أنهم لم يتمكنوا من كسر روح اليمن أو تدجين إنسانه.
يمانيون / تقرير/ طارق الحمامي
يأتي هذا التقرير ليرصد البنية العميقة لهذا الصمود اليمني، مستعرضًا كيف كانت الجغرافيا عامل حماية، والثقافة الشعبية درعًا نفسيًا، وكيف أن العقيدة الفكرية والدينية، خاصة المنهج القرآني في صورته المعاصرة، شكّلت جوهرًا لهذه المقاومة،
كما يُسلط الضوء على التحول الذي طرأ في العقود الأخيرة، حين خرجت المقاومة من إطارها التقليدي، لتتخذ شكلًا فكريًا منظّمًا ضمن المسيرة القرآنية، التي أعادت صياغة مفاهيم الجهاد، والسيادة، والاستقلال، بمنهج مستمد مباشرة من القرآن الكريم.
أهمية هذا التقرير لا تكمن فقط في سرده للوقائع، بل في تحليله لبنية الصمود اليمني، وتقديمه لرؤية تربط بين الماضي والحاضر، وتشرح لماذا لا يزال اليمن اليوم ،رغم الجراح والانقسامات ، عصيًّا على الانكسار، ولماذا يستحيل على أي قوة، مهما عظُمت، أن تُخضعه دون أن تواجه مقاومة نابعة من إيمان لا يموت.
أرض المقاومة .. لمحة من التاريخ
عرف اليمن غزوات عدة منذ آلاف السنين، من الأحباش إلى الفرس، ومن العثمانيين إلى الاستعمار البريطاني، لكن لم يتمكن أحد من إخضاع اليمن بشكل دائم، كانت الثورات تتوالى، والمقاومة تتجدد، في كل مرة يحاول فيها محتل زرع نفوذه، لم يكن السلاح وحده هو من يحسم، بل كانت العزيمة المترسخة في نفوس الناس، وتاريخ من الفخر والاستقلال.
فعلى سبيل المثال، قاوم اليمنيون الوجود العثماني لأكثر من قرنين، وانتهى الأمر بخروج العثمانيين بعد ثورات شرسة، أبرزها ثورة الإمام القاسم في القرن السابع عشر، التي اعتُبرت نموذجًا للمقاومة الإسلامية الشعبية ضد الاحتلال.
الجغرافيا الحصن الأول
لم تكن تضاريس اليمن مجرد طبيعة خلّابة، بل سلاح دفاعي لا يُقدّر بثمن، فجبال صعدة وعتمة وريمة وحجة، والممرات الوعرة في نهم ورازح والبيضاء، شكّلت ميادين مثالية لحرب العصابات والمقاومة، عبر العصور، فشل الغزاة في فرض سيطرتهم على الداخل اليمني رغم احتلالهم المؤقت للسواحل أو المدن، لأن اليمني يُقاتل من أعلى الجبال، ويعود من أعماق التاريخ.
الغزاة في مواجهة العقيدة اليمنية
على مدار التاريخ، كان اليمني يقاتل وهو يعتقد أن المقاومة ليست خيارًا سياسيًا، بل موقفًا إيمانيًا، وقد عبّرت عن ذلك الزيدية الثورية، التي رفعت مبدأ “الخروج على الظالم”، وكان الإمام زيد بن علي رمزًا لهذا التوجه.
في العصر الحديث، أعاد الفكر القرآني الذي تبنّته “المسيرة القرآنية” هذا المفهوم إلى الواجهة، حيث أصبح القرآن الكريم مصدرًا للتوجيه العملي والنضالي، لا مجرد نص تعبدي، وجاءت هذه العقيدة لتؤكد أن مواجهة الغزاة ليست مرتبطة بالمصالح السياسية، بل بالإيمان بأن السيادة لله وحده، وأن الهيمنة الخارجية باطل يجب مواجهته بكل الوسائل.
المسيرة القرآنية .. العقيدة المقاومة بثوب معاصر
تبلور هذا المنهج في فكر السيد حسين بدر الدين الحوثي، الذي أطلق “المسيرة القرآنية”، مؤكّدًا أن القرآن يجب أن يعود إلى الحياة اليومية كدستور مقاومة، وكشفٍ للواقع، وميزانٍ في المواقف، وقد تجلّى ذلك من خلال ، رفع شعار الصرخة في وجه الاستكبار ، ونشر ثقافة قرآنية شعبية واعية ، وتعبئة الناس سياسيًا وعقائديًا حول مفاهيم التحرر والولاء لله والبراءة من أعدائه ، وهكذا، اصطدم الغزاة بجدار جديد ، عقيدة مدروسة وواعية ومنظمة، تمتد بجذورها إلى أعماق التاريخ اليمني، لكنها ترتدي عباءة معاصرة، تحمل فكرًا ممنهجًا، وتتحرك على أساس أهداف واضحة.
اليمن الحديث..استمرارٌ للمعركة وفصلٌ جديد في المنهج القرآني
ما يحدث اليوم في اليمن معركة وجود بين مشروعين: (مشروع الهيمنة والوصاية الخارجية، ومشروع التحرر والسيادة القائم على الفكر القرآني ) ، العدوان المستمر منذ العام 2015، بواجهاته الخليجية والدولية، استهدف إسقاط هذا المشروع، لكنه واجه شعبًا تمت تعبئته ثقافيًا وعقائديًا على مدى سنوات، عبر دروس أسبوعية، إعلام مقاوم، وخطاب تعبوي يُربط بالقرآن الكريم، وما ساعد على صمود هذا المشروع هو الوعي الشعبي الذي يرى أن هذه الحرب ليست طائفية ولا مناطقية، بل حرب بين الحق والباطل ، والزهد في المصالح الدنيوية حيث يقاتل كثيرون من منطلق ديني لا مصلحي ، وكذلك الاعتماد على الذات في كل المجالات، في الاقتصاد، والتعليم، والتسليح، مما جعل المشروع منيعًا أمام الحصار.
الاقتصاد المقاوم .. بعد قرآني في مواجهة الحصار
تحولت مفاهيم قرآنية مثل الصبر، والتقشف، والتوكل، إلى وسائل عملية للمواجهة الاقتصادية، فمع الحصار المفروض، شجّعت “المسيرة” على الزراعة المحلية، ودعم الإنتاج الوطني، ورفض التعامل مع البنوك والمؤسسات المرتبطة بالخارج. وبرز مفهوم “الصمود الاقتصادي” كعقيدة بحد ذاتها، يُنظر إليها على أنها عبادة جماعية تتحدى العدوان.
من المقاومة إلى المشروع الحضاري
اليمن اليوم لا يقدّم نفسه كضحية، بل كـنموذج تحرري يطرح مشروعًا قرآنيًا بديلًا عن التبعية والانبطاح، يركّز على،
بناء الإنسان الواعي بالقرآن، واستعادة القرار السيادي ، وتحرير الاقتصاد، والتعليم، والإعلام من الهيمنة الأجنبية.
خاتمة .. اليمن الذي لا يُقهر
من السيوف إلى الطائرات، ومن الجبال إلى المدن، ومن القبيلة إلى الدولة، ظل اليمن متمسكًا بعقيدته في وجه كل غازٍ ومحتل، واليوم، رغم كل جراحه، يُثبت من جديد أن الأرض لا تُغلَب إن كان أهلها لا يُغلَبون ، فالعدوان، مهما طال، سيبقى غريبًا على هذه الأرض ، والقرآن، الذي أنار طريق اليمنيين قديمًا، لا يزال يوجّههم اليوم في معركتهم الحديثة.
وفي اليمن، لا تزال المعركة مستمرة.. لكن الوعي أصبح السلاح، والقرآن صار الخطة، والشهادة غدت حلمًا لا يُخاف منه، بل يُشتاق إليه.