معركة البحر الأحمر.. اليمن يفرض السيادة ويقلب موازين الردع الدولي
يمانيون | تقرير تحليلي
منذ نوفمبر 2023، أعلنت صنعاء – بوضوح غير قابل للتأويل – فرض حظر بحري على السفن المرتبطة بالكيان الصهيوني وأطراف العدوان على فلسطين، في موقف استثنائي أعاد الاعتبار لفكرة الردع الشعبي–السيادي في وجه الهيمنة الغربية.
لم يكن هذا الحظر مؤقتًا، ولم يرتبط بمساومات سياسية، بل جاء كقرار استراتيجي دائم لدعم غزة ميدانيًا لا بالشعارات، بل بالسفن والزوارق والصواريخ.
اليوم، تعود العمليات البحرية اليمنية في البحر الأحمر إلى الواجهة بعد إغراق سفن وانسحاب أخرى، ليس لأنها تمثل تصعيدًا جديدًا، بل لأنها تُذكّر العالم أن الحظر لم يُرفع أصلًا، وأن كل سفينة تخرقه، مهما كانت جنسيتها، ستواجه الرد الصريح من صنعاء.
في هذا السياق، لم تعد واشنطن ولا تل أبيب ولا حلفاؤهما قادرين على تأمين خطوط الملاحة، رغم تسليحهم المكثف، وتحالفاتهم البحرية، وحاملات طائراتهم.
هذا التحوّل الجذري في توازن القوى البحرية هو ما يُفكّكه هذا التقريرعبر تحليل موسّع، يبدأ من الاعتراف الأمريكي باستنزاف الذخائر، مرورًا بـ التحليلات الغربية والروسية التي تفضح عجزهم، ويصل إلى النتائج السياسية والاستراتيجية التي باتت تفرضها صنعاء على النظام الدولي.
النزيف الأمريكي في البحر الأحمر… الذخائر باهظة تنفد في مواجهة اليمنيين
أولى إشارات التحول جاءت من داخل البنتاغون نفسه، عندما أقر الأدميرال جيمس كيلبي، القائم بأعمال رئيس العمليات في البحرية الأمريكية، بأن العمليات في البحر الأحمر خلقت استنزافًا غير متوقع للذخائر الاعتراضية المتقدمة، التي تم استخدامها بكثافة غير محسوبة في مواجهة الهجمات الجوية والبحرية للقوات المسلحة اليمنية.
وأشار كيلبي إلى أن صواريخ “SM-3″ و”SM-6” التي تُكلّف ملايين الدولارات، قد استُنزفت في عمليات دفاعية ضد طائرات مسيّرة لا تتجاوز قيمتها بضعة آلاف، وهو ما كشف ضعفًا استراتيجياً لم يكن في الحسبان.
هذا التآكل السريع في قدرة الردع الأمريكي لم يكن مجرد قصور في الاستعداد، بل انعكاس لفشل التقديرات تجاه قدرات اليمنيين، ما مهّد للصدمة الأكبر التي عبّر عنها خبراء استراتيجيون في أوروبا.
الاستراتيجية اليمنية المتماسكة… “الثقب الأسود” الذي يبتلع الحسابات الغربية
وما إن بدأت بوادر هذا الفشل الأمريكي تتضح، حتى تعزّزت عبر ما أوردته شركة “Azure Strategy” البريطانية، التي وصفت الأداء العسكري اليمني بأنه تحوّل إلى “ثقب أسود” يبتلع الحسابات الغربية.
وبحسب التقرير، فإن الضربات النوعية التي نفذتها القوات المسلحة اليمنية ضد سفن تجارية في البحر الأحمر، لم تكن مجرّد رسائل عابرة، بل جزء من استراتيجية متكاملة تُدار بمنطق الدولة، وتهدف إلى إعادة صياغة معادلة الردع البحري لصالح اليمن.
اللافت أن التقرير ربط تصاعد القدرات اليمنية بفشل الغارات الأمريكية المكثفة بين مارس ومايو، والتي لم تُجدِ نفعًا في إضعاف المنظومة الدفاعية أو الهجومية لليمنيين. وبدلًا من ذلك، استمرت العمليات البحرية النوعية، وامتدت تأثيراتها إلى عمق الأسواق العالمية، من خلال تعطيل الإمدادات ورفع كلفة الشحن.
وإذا كان هذا التحليل السياسي قد أشار إلى تطور في التخطيط الاستراتيجي اليمني، فإن الميدان البحري نفسه كان أكثر بلاغة في التعبير عن هذا التحول، كما توضح التفاصيل الدقيقة للهجوم الميداني الذي نُقل عن مصادر روسية.
الهجوم البحري النوعي… من التكتيك إلى فرض السيادة على ظهر المحيط
ومن أبعاد هذه الاستراتيجية، ظهرت في الميدان تفاصيل “الملحمة البحرية” التي استعرضها موقع “TopWar” الروسي، والتي نفذتها القوات البحرية اليمنية ضد سفينتين يونانيتين كانتا في طريقهما لميناء حيفا المحتل.
تلك العملية، التي نُفذت في المياه الدولية وبأسلوب متقن، لم تكن فقط دليلًا على التكامل بين الزوارق المفخخة والطائرات المسيّرة، بل كشفت عن مستوى احترافي عالٍ لدى المهاجمين، بما لا يمكن تفسيره إلا على أنه فعل منظم لقوة سيادية تمتلك أدوات استخبارات، وتكتيكًا متطورًا، وخبرة في إدارة الاشتباكات البحرية الطويلة.
لكن ما جعل هذه العملية مفصلية هو شهادات الغربيين أنفسهم، لا سيما أفراد شركات الأمن الخاصة، الذين أقروا بأنهم وقعوا في كمين محكم، وأن قدراتهم القتالية أُجهضت خلال ساعات.
هذه الشهادات فتحت بابًا واسعًا أمام الاعتراف الدولي بوجود بنية عسكرية يمنية بحرية متماسكة، وهو ما أحرج حتى الإعلام الصهيوني الذي اضطر لتغيير لهجته.
صحيفة “جيروزاليم بوست”: الجرأة اليمنية تكشف غياب الردع الصهيوني والغربي
هذا الاعتراف العملي بقدرة اليمنيين على تنفيذ عمليات متقنة بعيدًا عن سواحلهم، قوبل بقلق بالغ في الصحافة العبرية، لا سيما “جيروزاليم بوست”، التي أقرت أن القوات المسلحة اليمنية باتت أكثر جرأة واحترافية، عقب نجاحها في إغراق سفينتين على بعد أكثر من خمسين ميلاً من الشواطئ اليمنية، وقيامها بإجلاء عدد من أفراد الطواقم، في مشهد قالت الصحيفة إنه يُظهر انهيار الجاهزية الغربية لا الردع.
وتساءلت الصحيفة عن سر الغياب الكامل لحاملتي الطائرات “نيميتز” و”كارل فينسون”، وكذلك المدمّرات الأمريكية التي كان يفترض بها التدخل الفوري، معتبرة أن هذا الغياب يعكس اختلالاً كبيرًا في أولويات واشنطن، وأن “التحالف البحري” الذي وُصف بـ”الازدهار” لم يعد قادرًا حتى على حماية نفسه.
صنعاء تفرض المعادلة وتواصل دعم غزة ضمن حظر مستمر لم يُرفع
يتّضح من تسلسل المعطيات الميدانية والاعترافات الغربية أن ما تقوم به صنعاء في البحر الأحمر ليس مجرد تحرك عسكري منعزل، ولا رد فعل ظرفي، بل هو جزء من معادلة استراتيجية متكاملة أُعلنت منذ نوفمبر 2023، تقوم على فرض حظر بحري شامل على السفن المرتبطة بالكيان الصهيوني وأطراف العدوان على غزة.
وبالرغم من محاولات بعض وسائل الإعلام الغربية الإيحاء بأن العمليات اليمنية تمثل “تصعيدًا جديدًا”، فإن الوقائع تثبت عكس ذلك: صنعاء لم تُوقف الحظر يومًا، وما يجري اليوم هو تنفيذ صارم لهذا القرار السيادي ضد كل من يخرقه، بما في ذلك السفن التجارية أو العسكرية المرتبطة بـ”إسرائيل” أو داعميها.
لقد أكدت القوات المسلحة اليمنية في أكثر من بيان أن هذا الحظر سيبقى قائمًا طالما استمر العدوان على غزة، وأن كل محاولة لتجاهله ستُقابل برد مباشر، وبالتالي، فإن الهجمات الأخيرة على سفن “ماجيك سي” و”إترنيتي سي” وسفن أخرى، تأتي ضمن هذا الإطار القانوني والسيادي الذي أعلنته صنعاء بوضوح، وليس نتيجة توتر عرضي أو تكتيك متغيّر.
إن صنعاء، بهذا الالتزام المستمر والدقيق، تُثبت أنها ليست فقط ساحة دعم للمقاومة الفلسطينية، بل شريك مباشر في معركة الردع الكبرى ضد الاحتلال الصهيوني وأدواته الغربية.. فالعمليات البحرية ليست فوضى، بل جزء من هندسة ردع محكمة، تضع غزة في قلب القرار السيادي اليمني، وتحوّل البحر الأحمر إلى ساحة صراع مفتوحة حتى زوال العدوان ورفع الحصار عن فلسطين.