“دار الحجر”.. قصرعلى صخرة تتحدى الزمن وأيقونة معمارية تجسد عبقرية اليمنيين عبر العصور

يمانيون| محسن علي

في قلب منطقة وادي ظهر، شمال غرب العاصمة اليمنية صنعاء، يقف “دار الحجر” شامخاً كأعجوبة معمارية فريدة، تروي حكاية قصرٍ، يختزل تاريخ أمة بأكملها وهوية لا تبدد، هذا الصرح الذي يبدو وكأنه نبت من الصخرة التي يحملها، هو أكثر من مجرد مبنى؛ إنه قصيدة حجرية تجسد عبقرية الهندسة اليمنية، ورمز للصمود والإبداع الذي يتحدى الزمن، جاذباً إليه الأنظار من كل حدب وصوب، ليظل أحد أبرز معالم اليمن التاريخية والأثرية وأكثرها سحراً وجمالاً.

 

دار الحجر.. أيقونة معمارية وتاريخ خالد

على بعد حوالي 15 كيلومتراً من قلب أمانة العاصمة ، يتربع قصر “دار الحجر” على قمة صخرة جرانيتية عملاقة، وكأنه تاج يزين وادي ظهر الخصيب، هذا المبنى التاريخي ليس مجرد معلم سياحي، بل هو سجل حي لتاريخ اليمن الغني والمتعاقب، حيث تتداخل فيه قصص الملوك والحضارات مع عبقرية الفن المعماري.

 

تاريخ يمتد لآلاف السنين

تشير الروايات التاريخية إلى أن “دار الحجر” بشكله الحالي قد شُيّد في أواخر القرن الثامن عشر الميلادي بأمر من إمام اليمن المنصور علي بن العباس، الذي كلف وزيره المهندس المعماري علي بن صالح العماري ببناء قصر صيفي له، لكن جذور هذا المكان أعمق من ذلك بكثير، حيث يُجمع المؤرخون على أنه بني على أنقاض قصر سبئي قديم يُعرف بـ “حصن ذي سيدان”، الذي يعود تاريخه إلى عام 3000 قبل الميلاد.

تعرض الحصن القديم للدمار على يد الأتراك، قبل أن يعاد ترميمه وتوسعته في بداية القرن العشرين على يد الإمام يحيى حميد الدين، الذي أضاف إليه الطابق العلوي المعروف بـ “المفرج”.

 

عبقرية معمارية فريدة

يتألف القصر من سبعة طوابق تم تصميمها ببراعة لتتلاءم مع التكوين الطبيعي للصخرة التي بني عليها، مما يخلق تناغماً مثالياً بين إبداع الإنسان وجمال الطبيعة، وتتميز واجهات القصر الأربع بتصاميم مختلفة، مما يعطي انطباعاً بأنك أمام عدة مبانٍ وليس مبنى واحد. تزين النوافذ الخشبية التقليدية والقمريات المعشقة بالزجاج الملون جدرانه، محاطة بزخارف جصية دقيقة تعكس روعة الفن الصنعاني.

 

من عجائب القصر

عند مدخل القصر، تستقبلك شجرة “الطالوقة” المعمرة التي يقدر عمرها بأكثر من 700 عام، شاهدة على قرون من تاريخ هذا المكان، في الداخل، تقودك الممرات المرصوفة بالأحجار إلى غرف ومجالس متعددة، أبرزها “المفرج” في الطابق العلوي الذي يطل على حوض مائي دائري مبني من حجر الحبش الأسود ويوفر إطلالة بانورامية ساحرة على بساتين العنب والفرسك التي يشتهر بها وادي ظهر، ومن عجائب القصر وجود بئر عميقة محفورة في قلب الصخرة لتزويد سكانه بالمياه.

 

أهمية تاريخية وسياحية

بعد أن كان مقراً صيفياً للأئمة والملوك، تحول “دار الحجر” بعد 1962 إلى معلم تاريخي ومزار سياحي يقصده الآلاف من اليمنيين والسياح الأجانب على حد سواء  ويمثل القصر اليوم رمزاً للهوية المعمارية اليمنية، وشاهداً على تاريخ البلاد العريق الذي يمتد من عصور ما قبل الإسلام مروراً بالدولة الإسلامية ووصولاً إلى العصر الحديث.

 

استهداف الآثار.. جريمة بحق الهوية والتاريخ

وعلى الرغم مما تتميز به اليمن من إرث كبير جدا في المواقع والمعالم الأثرية والتاريخية, تعمدت قوى تحالف العدوان الأمريكي السعودي الإماراتي في تدمير عدد منها في عدوانها على اليمن, كان بالنسبة للشعب اليمني اعتداء على روحه وتاريخه وهويته الثقافية التي تشكلت عبر العصور وتتجاوز خطورة هذا الاستهداف البعد الوطني لتصبح جريمة بحق التراث الإنساني العالمي، خاصة وأن العديد من هذه المواقع مدرجة على قائمة اليونسكو للتراث العالمي أو القائمة التمهيدية، مثل صنعاء القديمة، وشبام حضرموت، وزبيد.

 

تنديدات اليونسكو حبر على ورق

وقد نددت منظمة اليونسكو مراراً بهذه الهجمات، ودعت تحالف العدوان إلى الامتناع عن استهداف المواقع التاريخية، مؤكدة أن هذا التدمير المتعمد قد يرقى إلى جريمة حرب بموجب القانون الدولي، وتحديداً اتفاقية لاهاي لعام 1954 لحماية الممتلكات الثقافية، لكن وبالرغم تزويد اليونسكو للتحالف بقوائم إحداثيات المواقع التي يجب تجنبها، استمر القصف ليطال العديد منها، ضاربة قوى العدوان ببيانات اليونسكو عرض الحائط.

 

المعالم التاريخية والهوية اليمنية في دائرة الاستهداف

وفي السياق تشير تقارير مركز الهدهد للدراسات الأثرية إلى تضرر ما يقارب 100 موقع ومعلم أثري بشكل مباشر بسبب قصف التحالف الاجرامي، ووثقت الهيئة العامة للآثار والمتاحف (في صنعاء) تدميراً جزئياً أو كلياً لنحو 86 موقعاً ومعلماً أثرياً حتى نهاية عام 2016، فيما كشف تقرير لمنظمة “مواطنة لحقوق الإنسان” بعنوان “تجريف التاريخ” وثّق 34 واقعة اعتداء على مواقع أثرية وتاريخية من قبل تحالف العدوان وادواته، وكان للقصف الجوي للتحالف النصيب الأكبر منها.

 

أبرز المواقع المستهدفة ونسب الأضرار

طالت غارات تحالف الإجرام عدد من المواقع والمعالم الأثرية من أبرزها سد مأرب التاريخي، تعرض للقصف في مايو 2015، مما ألحق أضراراً جسيمة بجدرانه ونقوشه قدرت بنحو 70%، فيما دمرت غارات التحالف الإجرامي في مدينة صرواح الأثرية العاصمة السبئية القديمة ما نسبته30%.

أما في مدينة براقش الأثرية بمحافظة الجوف فقد قدرت الهيئة العامة للآثار أن الغارات دمرت 40% من معالم المدينة، بينما وصلت نسبة الدمار في “معبد نكرح” إلى 70% بعد استهدافه في مارس 2016، وإلى مدينة صنعاء القديمة حيث تعرضت أحياء في المدينة المصنفة ضمن التراث العالمي، مثل حارة القاسمي والفليحي، لقصف مباشر في يونيو وسبتمبر 2015، مما أدى إلى انهيار منازل تاريخية ومقتل مدنيين.

قلعة القاهرة بمحافظة تعز هي أيضا فقد تعرضت لتدمير جزئي بسبب القصف الجوي، ودمرت طائرات التحالف متحف ذمار بشكل كامل في مايو 2015، مما أدى إلى ضياع ما يقدر بـ 12,500 قطعة أثرية، وفقدت اليمن أجزاء لا تعوض من تاريخها بفعل الاستهداف الاجرامي الممنهج ضمن سياسة العدو المتعمدة  لطمس هوية بلد ضارب في جذور التاريخ.

 

التحالف وتدمير ذاكرة التراث اليمني

يمثل التراث الثقافي اليمني، الذي يمتد لآلاف السنين، ركيزة أساسية للهوية الوطنية وذاكرة حية لحضارات عريقة أسهمت في تاريخ الإنسانية، إلا أن هذا الإرث العظيم وجد نفسه في قلب الصراع والمؤامرات منذ عام 2015، حيث تعرضت عشرات المواقع الأثرية والمعالم التاريخية لاستهداف مباشر ومتعمد من قبل طيران التحالف بقيادة السعودية والإمارات، وبدعم واسناد امريكي صهيوني مما يرقى إلى مستوى “تجريف التاريخ” ومحاولة لمحو الذاكرة الجماعية لليمنيين.

 

على الرغم من التحديات التي تواجهها السياحة الداخلية في اليمن حالياً جراء استمرار العدوان والحصار، يظل “دار الحجر” وجهة مفضلة للكثير من الأسر اليمنية ومواسم حفلات الأعراس بحثا عن لحظات من الصفاء بين أحضان التاريخ والطبيعة، وملاذاً يهربون إليه من صخب الحياة، ليؤكد مكانته كأحد أهم وأجمل الكنوز الأثرية في اليمن.

You might also like