من دائرة البيت والأسرة إلى دائرة الدولة: كيف تُقاس أهلية المسؤول؟
يمانيون| بقلم.د. حمود الأهنومي
إنَّ اعتمادَ الكفاءة الأخلاقية والسلوكية بوصفها المعيار الأول في اختيار المسؤولين قيادات ومدراء ومنحهم الثقة، هو منطلق قرآني أصيل وأساس حكمة إدارية عالمية. يقول الله تعالى: (قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا)، فسلامة الإنسان في تدبيره لأعزِّ الناس إليه (نفسه وأهله) هي الاختبار الأسبق لصلاح ضميره، واستقامته، وجدارته بتحمُّل الأمانات الكبرى. ومن هنا جعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم مقياسَ الخيرية الحقيقية في السلوك داخل الدائرة الأصغر فقال: «خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لأَهْلِهِ»، لأنَّ مَنْ استقام خلقه مع أقرب الناس إليه – حيث تقلُّ المراقبة الخارجية وتبدو الطبائع الحقيقية – كانَ أقدرَ على العدل والرحمة والنزاهة مع عامة الناس.
وأكَّد الإمام علي عليه السلام هذا المنطق التصاعدي في عهده إلى الأشتر النخعي حين أوضح له معايير اختيار كتابه، فقال: «وَلا يَجْهَلُ مَبْلَغَ قَدْرِ نَفْسِهِ فِي الأُمُورِ، فَإِنَّ الْجَاهِلَ بِقَدْرِ نَفْسِهِ يَكُونُ بِقَدْرِ غَيْرِهِ أَجْهَلَ». فاليقظة الأخلاقية الذاتية، ومعرفة حدود النفس وقدراتها، هي الأساس الذي تُبنى عليه قدرةُ القائد والمدير على تقييم الآخرين وتوظيفهم بحكمة، ووضع كلِّ فرد في موقعه المناسب.
وهذه القاعدة النابعة من الوحي والفكر الإسلامي ليست شأناً دينياً فحسب، بل تُثبتها النظريات الإدارية والنفسية الحديثة، وعلى رأسها نظرية الذكاء العاطفي (Emotional Intelligence)، التي ترى أنَّ نجاح القائد وفاعليته تتحددان بقدرته على إدارة ذاته وعلاقاته، عبر فضائل عملية كـ (الصدق، والانضباط الذاتي، وضبط الانفعالات، والتعاطف، والرؤية الواضحة لتبعات القرار). كما تبرز أهمية الكفاءة الاجتماعية المتمثلة في (التواصل الفعّال، وبناء الثقة، واستيعاب طبيعة البشر، وإدارة الفرق العملية).
ولذلك، فإنَّ إدراج «الكفاءة الأخلاقية والسلوكية» – بمكوناتها الذاتية والاجتماعية – كمعيار أساس موازٍ للكفاءة الفنية والخبرة العملية، ليس ترفاً فكرياً، بل هو ضرورة شرعية وعلمية لمنع المفارقة الخطيرة بين “القدرة على الإنجاز” و”الصلاحية للأمانة”، وهو الضامن الرئيس لبناء مؤسسات رصينة، تحظى بثقة الجمهور، وتقاوم آفات الفساد من منبتها.
وتطبيقاً لهذا المبدأ: فإنَّ من ثبتت قدرته الفنية ولكن ظهر – عبر مواقف متكررة وسلوك ثابت – عجزه عن إدارة شؤون بيته وأسرته إدارةً مستقرةً أخلاقياً وتربوياً وعلائقياً، أو انكشفت فيه انحرافات سلوكية في دائرته الخاصة، فإنَّ الأحوطَ والأصوبَ أن يُستفاد من مهارته في مواقع فنية استشارية أو تنفيذية بحتة لا تخوّله سلطةً على رقاب الناس أو إدارةً لمقدّراتهم. فالقدرة الفنية تُوظَّف، وأمّا الثقة فلا تُمنح إلا لمن اجتاز امتحان الأمانة في أصغر الدوائر وأشدّها قربًا إليه.
إن هذه الرؤية التكاملية تهدف إلى حماية المصلحة العامة، وترشيد الطاقات البشرية، وبناء نموذج قيادي يجمع بين العلم والأخلاق، والكفاءة والاستقامة، وهو ما تطمح إليه كل أمة تسعى إلى مستقبل زاهر وقوي ورشيد.
والله من وراء القصد..