الاكتفاء الذاتي في اليمن .. الطريق إلى التحرر من الهيمنة الاقتصادية وفق منهج المسيرة القرآنية
في خضم التحديات التي تواجهها اليمن منذ عقود، وعلى وجه الخصوص في ظل العدوان والحصار المفروض منذ عام 2015، برزت قضية الاكتفاء الذاتي كواحدة من أهم القضايا المصيرية المرتبطة بمستقبل البلاد واستقلالها السياسي والاقتصادي، فلطالما كانت التبعية الاقتصادية أحد أخطر أشكال الهيمنة التي مارستها قوى الاستكبار والاستعمار على اليمن، من خلال التحكم في مصادر الغذاء، والمساعدات، والموانئ، ومفاصل الاقتصاد الحيوية، ضمن سياسة ممنهجة هدفها إبقاء البلد ضعيفًا، تابعًا، ومشلولًا عن النهوض.
يمانيون / تقرير / طارق الحمامي
من هنا، لم يكن خيار الاكتفاء الذاتي مجرد ردة فعل على الحصار، بل تحوّل في الرؤية والفكر، يستند إلى منهجية متكاملة تتجذر في المشروع القرآني للمسيرة القرآنية، التي قدّمت هذا المفهوم كضرورة إيمانية وواقعية، منطلقة من مبادئ القرآن الكريم التي ترفض الذل والخضوع، وتدعو إلى العمل، والبناء، والاستغناء عن قوى الطغيان والاحتلال.
هذا التقرير يتناول بعمق مفهوم الاكتفاء الذاتي في اليمن ضمن سياق المسيرة القرآنية، ويقدم رؤية قرآنية متكاملة لمفهوم الاكتفاء ، وتشخيصًا دقيقًا لواقع الهيمنة الاقتصادية التي تعرّض لها اليمن عبر أدوات متعددة، أبرزها العدوان والحصار، والإغراق السلعي، والارتهان للمساعدات ، ثم عرضًا لجهود اليمنيين في السنوات الأخيرة للتحول من بلد مستهلك تابع إلى بلد منتج مستقل، بدءًا من الزراعة والصناعة، وصولًا إلى الصناعات العسكرية.
وتأتي أهمية هذا التقرير من كونه يسلّط الضوء على قضية جوهرية تمثل حجر الزاوية في معركة التحرر الوطني لليمن، ويعيد طرح سؤال السيادة من بوابة الاقتصاد، في وقت تكشّفت فيه حقيقة أن من لا يملك قراره الاقتصادي، لن يستطيع أن يحمي استقلاله السياسي ولا كرامته الوطنية.
فكرة الاكتفاء الذاتي في ضوء القرآن الكريم
في القرآن الكريم إشارات واضحة تدفع نحو التمكين الذاتي والاستقلال الاقتصادي، باعتباره مدخلًا لتحرر الأمة، يقول تعالى: (وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ) [الأنفال: 60] ، وقوله تعالى : (فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ) [الملك: 15]، وقوله تعالى : (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ) [الملك: 15]
تدعو هذه الآيات إلى السعي والتخطيط والتجهيز، وهي إشارات تتجاوز المفهوم الفردي للرزق، لتشمل بُعدًا استراتيجيًا في بناء أمة قادرة على الإنتاج، غير متكئة على دعم خارجي مشروط أو تابع ، وقد جسّد نبي الله يوسف عليه السلام أروع نموذج للتخطيط الاقتصادي والاكتفاء في ظل الأزمة، حينما وضع خطة اقتصادية طويلة الأمد لمواجهة سنوات القحط، أساسها الادخار والإنتاج الذاتي كما ورد في سورة يوسف .
الاكتفاء الذاتي .. مفهومه وأبعاده
الاكتفاء الذاتي لا يعني الانغلاق أو الانعزال، بل هو القدرة على تلبية الاحتياجات الأساسية داخليًا في الغذاء، والدواء، والطاقة، والتقنية، والصناعات الحيوية، بحيث لا تظل الأمة رهينة للإملاءات السياسية والاقتصادية القادمة من الخارج ، وله أبعاد بارزة على كافة الأصعدة ،
اقتصاديًا .. تنويع الإنتاج المحلي، دعم الزراعة والصناعة، تقليل الاعتماد على الاستيراد.
سياسيًا .. تعزيز السيادة الوطنية ورفض التبعية.
اجتماعيًا.. خلق فرص عمل وتوزيع الثروة داخل البلد.
ثقافيًا.. تجذير قيم الاعتماد على الذات وربط التنمية بالهوية الحضارية.
الاكتفاء الذاتي في فكر المسيرة القرآنية
تُعد المسيرة القرآنية رؤية متكاملة للنهضة، تستمد جذورها من القرآن الكريم، وتؤمن بأن تحقيق الاكتفاء الذاتي في مختلف المجالات هو شرط لازم للتحرر من التبعية والسيطرة الأجنبية، وهو ما أكد عليه السيد القائد عبدالملك بدر الدين الحوثي يحفظه الله في أكثر من محاضرة في أنه لن يتحقق لنا الاستقلال إلا إذا كنا نمتلك اقتصادنا، ونزرع طعامنا، ونصنع ما نحتاج إليه ، وترتكز هذه الرؤية على الآيات القرآنية التي تدعو الأمة إلى السعي والعمل، ورفض الذل والارتهان. ومنها قوله تعالى: (وَلَن يَجْعَلَ ٱللَّهُ لِلْكَـٰفِرِينَ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا) [النساء: 141] ،
الرؤية القرآنية ترفض الخضوع الاقتصادي، وتدفع إلى بناء أمة قوية تملك قرارها ومعيشتها، وتتحرر من الحاجة للمستكبرين.
الهيمنة الاقتصادية على اليمن .. أدوات وأشكال
طوال العقود الماضية، خضعت اليمن لهيمنة اقتصادية ممنهجة مارستها قوى استعمارية إقليمية ودولية، أبرزها الولايات المتحدة وكذلك السعودية، عبر أدوات مختلفة، من خلال الارتهان للمنح والمساعدات التي تُستخدم كوسيلة لفرض الإملاءات السياسية، والسيطرة على القرار المالي من خلال المؤسسات الدولية، كبنك النقد وصندوق النقد الدولي ، وعرقلة التنمية الزراعية والصناعية عبر إغراق السوق اليمنية بالبضائع الأجنبية ، والحصار والحرب الاقتصادية، خصوصًا بعد 2015، بهدف إخضاع الشعب وتجويعه.
وقد أدت هذه السياسات إلى تدمير مقومات الإنتاج المحلي، وخلق اقتصاد تابع، هش، يعتمد على الاستيراد بنسبة تصل إلى أكثر من 90%.
معركة الاكتفاء الذاتي.. من التحدي إلى التحرك
منذ انطلاق العدوان على اليمن في 2015، وما تلاه من حصار خانق، بدأ الشعب اليمني في عهد المسيرة القرآنية بالتحرك الجاد نحو خيار الاكتفاء الذاتي ، وأبرز ملامح هذا التحرك في المجالات التالية :
الزراعة: من خلال إطلاق حملات واسعة تحت شعار “لنزرع أرضنا ونأكل مما نزرع” ، ودعم زراعة القمح والحبوب المحلية ، وإعادة إحياء الأراضي الزراعية المهملة.
الصناعة: من خلال تطوير الصناعات المحلية رغم الحصار ، وتشجيع الصناعات الخفيفة والمنتجات الوطنية.
الجانب الغذائي: من خلال دعم المزارعين وتحفيز الإنتاج المحلي ، وتشجيع المقاطعة الاقتصادية للبضائع الأمريكية والإسرائيلية.
الوعي المجتمعي: من خلال توجيه الخطب والمناسبات الدينية والإعلام نحو ثقافة الاكتفاء ، وتعزيز ثقة المواطن بقدراته المحلية.
تحديات التي تواجه الاكتفاء في اليمن
رغم التحرك الجاد نحو الاكتفاء، لا تزال التحديات كبيرة وعلى رأس هذه التحديات استمرار الحصار المفروض على الموانئ والمطارات من قبل دول العدوان وعلى رأسها أمريكا ، وكذلك شُحّ الموارد المالية وضعف البنية التحتية ، كما أن المرتزقة يستمرون في توجيه هجمات إعلامية ممنهجة ضد المنتج المحلي خدمة للشركات التابعة لأمريكا والعدو الصهيوني ، ودعم إقتصاد لوبيات الفساد من التجار المرتبطين بدول العدوان ،
لكن الإرادة الشعبية، والتوجه الرسمي، والالتفاف حول القيادة الثورية، كلها عوامل معززة لفرص النجاح.
خطوات عملية لتعزيز الاكتفاء في اليمن
في إطار برنامجها التنموي الوطني عملت الحكومة على ترجمة توجيهات القيادة الثورية والسياسية من خلال جملة من الإجراءات الإقتصادية والتنموية التي لا تزال مستمرة ، وتحتاج إلى مشاركة واسعة من كل المكونات اليمنية لتحقق النتائج المنتظرة لتعزيز الإكتفاء الذاتي في اليمن وهناك خطوات هامة تمت ولا تزال في طور التنفيذ تتمثل في :
دعم الإنتاج الزراعي والحيواني ورفع جودته.
توفير التمويل والدعم الفني للمشاريع الصغيرة والمتوسطة.
توطين الصناعات الأساسية والغذائية.
بناء شبكة تعاونيات إنتاجية ومجتمعية.
تحفيز الاستهلاك الوطني والوعي بالمنتج المحلي.
خاتمة
في خضم التغيرات الإقليمية والدولية، يبقى خيار الاكتفاء الذاتي في اليمن ضرورة ملحّة، ومسارًا نضاليًا يعكس عمق الوعي الشعبي والقيادي بخطورة التبعية ومآلاتها، ومع تزايد الحصار وتكالب الأعداء على قرار اليمن السيادي، يصبح المشروع الاقتصادي الذاتي هو السلاح الفعلي في وجه الحروب المركبة التي تستهدف الشعب في خبزه ودوائه وكرامته.
إن المشروع القرآني لا يقدّم حلولًا روحانية فقط، بل رؤية عملية لبناء أمة حرة، مستقلة، عزيزة، وفي هذا السياق، فإن الاكتفاء الذاتي ليس نهاية الطريق، بل بدايته؛ بداية اليمن الجديد، الذي يزرع، ويصنع، ويأكل مما ينتج، ويقرر مصيره بيده لا بيد السفارات.