العامرية.. لؤلؤة العمارة الطاهرية وشاهدة التاريخ والهوية في قلب رداع
يمانيون|محسن علي
يُعد مسجد ومدرسة العامرية في مدينة رداع ، بمحافظة البيضاء وسط اليمن، واحداً من أبرز المعالم الدينية والتاريخية والمعمارية في جنوب شبه الجزيرة العربية، ومثالاً نادراً على عبقرية العمارة الإسلامية في فترة الدولة الطاهرية, ورمزا للصمود التاريخي, إذ لا يقتصر دوره على كونه صرحاً دينياً وتعليمياً فحسب، بل هو سجل بصري حي لتاريخ المنطقة وذورة فنونها، حيث يجمع بين متانة البناء وجمالية الزخرفة، ويقف شاهداً على فترة ازدهار حضاري في اليمن تتحدى الزمن والإهمال.
تاريخ البناء والمؤسس

شُيدت العامرية في شهر ربيع الأول من عام 910 هـ، الموافق سبتمبر 1504م، بأمر من السلطان الظافر عامر بن عبد الوهاب، آخر سلاطين الدولة الطاهرية، وسُميت باسمه، حيث كان حريصاً على أن تكون المدرسة والمسجد مركزاً للعلم والعبادة, وأشرف على بنائها وزيره الأمير علي بن محمد البعداني يمثل هذا الصرح ذروة فن العمارة الطاهرية، التي تميزت بالجمع بين الوظيفة والجمال، واستخدام تقنيات بناء محلية متقدمة, خضعت العامرية لعملية ترميم تاريخية طويلة أعادت لها بريقها، لتفوز بجائزة الآغا خان للعمارة2007، ورشحت لتكون ضمن مواقع التراث العالمي.
الوصف المعماري والهندسة الطاهرية
تتميز العامرية بتصميمها الفريد ذي الطابقين، الذي يخدم وظيفتين أساسيتين، المدرسة في الطابق الأرضي والمسجد في الطابق العلوي, فالطابق الأرضي يتكون بجدرانه السميكة من مدرسة (غرف لطلاب العلم) بمرافقها, فيما العلوي منه وهو بيت الصلاة والعبادة, فهو مستطيل الشكل’ ومغطى بست قباب رائعة, بالإضافة إلى مقام على عمودين وعقود مدببة, وكذلك يتميز بفضاء مفتوح (الصرح) وهو مستطيل الشكل تحيط به أربعة أورقة تفتح على الفناء بثلاثة عقود مدببة, ما يظهر عبقرية “القضاض” وجمال الزخارف التي لا تغيب.
فن الزخرفة الجصية الملونة
تكمن القيمة الفنية الكبرى للعامرية في زخارفها الداخلية، التي تُعد من أروع ما أنتج الفن الإسلامي في اليمن,يزين بواطن القباب وأوجه العقود زخارف جصية ملونة (تمبرا) ذات دقة متناهية، تتنوع بين,”الزخارف الهندسية” وهي: أشكال متقاطعة ومنتظمة تعكس مهارة فائقة في التكوين, وكذلك “الزخارف النباتية” وهي: رسوم لأوراق وأزهار متداخلة بأسلوب الأرابيسك, بالإضافة إلى “الزخارف الخطية” وهي: كتابات قرآنية بخط الثلث، وشريط كتابي ملون يحيط ببيت الصلاة يحمل ألقاب السلطان عامر بن عبد الوهاب.

سر الصمود.. وتقنية القضاض
اعتمد بناء مسجد العامرية على تقنية القضاض، وهي مادة بناء تقليدية يمنية قديمة مشهورة، عبارة عن قصارة مضادة للماء مصنوعة من الجير المعالج بالزيوت والدهون, هذه المادة، التي يعود تاريخ استخدامها إلى أكثر من ألف عام، منحت المبنى متانة استثنائية، وحافظت على الزخارف الجصية والملونة من التلف على مر القرون، حتى بعد أن نسي الحرفيون اليمنيون “وصفاتها المختلفة”.
من الإهمال إلى رحلة الترميم
بحسب المصادر والمعلومات ظلت العامرية في حالة سيئة من الإهمال والتدهور حتى عام 1978م، عندما بدأت الآثارية العراقية سلمى الراضي جهودها لإنقاذ هذا الصرح، استمرت الراضي في العمل على تمويل وإدارة عملية الترميم بجهد ذاتي على مدى 22 عاماً، حيث عملت مع حرفيين محليين لإحياء تقنيات البناء والزخرفة المنسية، بما في ذلك إعادة اكتشاف وصناعة القضاض.
الاعتراف العالمي
تُوجت جهود الترميم الشاقة بالاعتراف الدولي، حيث فازت مدرسة وجامع العامرية بجائزة الآغا خان للعمارة المرموقة في عام 2007م وتُعد هذه الجائزة دليلاً على الأهمية العالمية للمبنى، ليس فقط كأثر تاريخي، بل كنموذج ناجح للحفاظ على التراث المعماري الإسلامي وإعادة إحيائه.
يناير 2012.. تحويل منارة العلم إلى قاعدة عسكرية
هذا الصرح، الذي نجا من محاولات الهدم في القرن الثامن عشر، وجد نفسه في القرن الحادي والعشرين مهدداً بخطر جديد يتمثل في سيطرة الجماعات التكفيرية المتطرفة المدعومة أمريكيا, ففي يناير 2012، تحولت مدينة رداع إلى بؤرة صراع، ووقع المسجد التاريخي في قلب هذه الأحداث, وبتسهيلات أمريكية ودعم سعودي وتواطؤ من حكومة الفار هادي ، وتحديداً منتصف يناير من العام ذاته, دخول وسيطرة مئات المسلحين التكفيريين التابعين لما يسمى “بتنظيم القاعدة”، تحت قيادة الصريع طارق الذهب، الذي أعلن بعد خطبته من على منبر المسجد, إقامة ما يسمى “إمارة إسلامية” في المدينة ,واستخدم مكانته الدينية والتاريخية, كمنصة لإعلان التكفير والإجرام, محولين هذا الصرح العملاق إلى ثكنة عسكرية ومخزن للأسلحة, وهو ما كشف بوضوح أن انتشار العناصر (ذات المنشأ والدعم والإسلام وفق الطريقة الأمريكية) لم تقتصر على المخاطر الأمنية المباشرة، بل امتدت لتشمل تهديدات ثقافية وإنشائية طويلة الأمد, سيما وأن الفكر الوهابي المتطرف يشكل تهديداً وجودياً على الزخارف الفنية الفريدة للمسجد وقبابه التاريخية.

الخطر الثقافي والتشويه الفكري
ورغم أن العامرية مشهور بقبابه الست الرائعة وزخارفه الجصية الملونة التي تتضمن رسوماً نباتية وهندسية تاريخياً تمتد لقرون، سعت هذه الجماعات إلى تدمير وهد أبرز المعالم الدينية والأثرية الإسلامية في كافة المحافظات والمناطق المحتلة الخاضعة لسيطرتهم, كما فعلت في عدة مواقع ومساجد وقباب وأضرحة علماء وأولياء وصالحين’ طالتها أياديهم وتفجيرها بعبواتهم الناسفة, في مختلف المحافظات, كونها في أنظارهم “بدعاً” أو “أوثاناً وشركاً”، غير أن الحقيقة في هذا الجانب هو تنفيذهم لخطة أمريكية صهيونية مدروسة لسحق وتدمير كلما يربط اليمن بهويته وحضارته واليمنيين بالإسلام ويشدهم إلى رموزه وقادته وموروثه, كي لا يبقى أي معلم ديني أو أثري يذكر الشعب بأمجاده وأدواره المشرفة على مر التاريخ, ليأتي لاحقاً تحالف العدوان الأمريكي الصهيوني السعودي الإماراتي, في العام 2015م يستكمل هذا المخطط التدميري ويضعها في قائمة الاستهداف الجوي بواسطة الطائرات الحربية, والبري عبر مرتزقته وأذنابه المأجورين بما فيهم هذه الجماعات, ما أدى إلى قصف وتدمير ونسف أكثر من 100 موقع ومعلم تاريخي وفق إحصائيات كشفت عنها الهيئة العامة للآثار اليمنية.
يبقى مسجد ومدرسة العامرية في مدينة رداع بمحافظة البيضاء رمزاً حياً لتاريخ اليمن وفنونه يروي قصة حضارة تجدد، ومحوراً يربط الماضي بالحاضر, وجزء من الذاكرة الحضارية والإنسانية جمعاء, ويؤكد على أن الحفاظ على التراث هو صمود في وجه النسيان والتحديات, وهوية تاريخية لكنوز معمارية لا تعوض.