Herelllllan
herelllllan2

قمة الانقلاب الإستراتيجي في الإقليم (ج5)

أحمد عز الدين

قد يبدو واضحا لماذا حظيت الحرب على اليمن بحضور وافر في الأجزاء السابقة من هذه الرؤية ، لكننا نستطيع أن نطرح السؤال نفسه في اتجاه آخر ، لماذا حظيت الحرب على اليمن بأولوية واضحة في خطاب الإدارة الأمريكية الجديدة ، حد إيقاف توريد الأسلحة إلى السعودية ، وتجميد صفقة الإمارات ، والتوقف عن تزويدهما بالمعلومات التي يوفرها الاستطلاع؟ .

لقد جاءت قرارات الإدارة الأمريكية بهذا الخصوص كأن الولايات المتحدة قد خرجت فجأة من بركة مليئة بالدماء والأنقاض والضحايا ، وهي ترفع في يدها باقة كبيرة من الورود البيضاء ، وقد ارتدت إليها روح الإنسانية الغائبة ، ذلك أن هذه الحرب التي تجاوزت، أو كادت زمنا وخرابا وحصارا، الحرب العالمية الثانية ، صدر قرار إعلانها من واشنطن ، ومن سلطة كان بايدن نفسه الأقرب إلى قمتها ، وبقرار يكاد أن يكون صاحبه الأول ، وقد تتابعت فصولها الدامية بدور عسكري أمريكي مباشر في إدارتها ، وفي أعمالها القتالية ، قبل أن يتم دمج إسرائيل فيها ، وتواصلت لمدة عامين قبل أن تنتقل إلى سلطة أمريكية أخرى ، باعتبارها واحدة من أهم قضبان الإستراتيجية الأمريكية المضادة للإقليم .
ما الذي تغير إذا ؟

أحسب أن هناك ثلاثة مستويات من التفسيرات :

في المستوى الأول هناك – أولا – أن الإدارة الأمريكية الجديدة رأت في التعلل بأكبر أزمة إنسانية وأخلاقية تطول حياة 80% من سكان اليمن بالتجويع والحصار والقتل ، فرصة لأن تضفي على وجهها ملامح إنسانية أفسدتها مواقفها لأكثر من عقدين من الزمن .

وهناك – ثانيا – ما يقال إن التوجه إلى التهدئة في اليمن ، يشكل جسرا لحوار مع إيران لإبرام صفقة متكاملة ، لا تخص فقط برنامجها النووي ، ومشروع صواريخها الباليستية ، وإنما أيضا ما تحوَّل إلى محطات نفوذ لها ، لكن الأمريكيين والبريطانيين قبلهم يدركون أن القيادة في صنعاء لديها نزعة استقلالية واضحة ، ولن تقبل أن تكون جزءا من صفقة تلحق ضررا بالمصالح الوطنية اليمنية ، لقد قال أوباما يوما أن الإيرانيين لم يطلبوا من الحوثيين دخول صنعاء

لكن الحقيقة المؤكدة ، أن الإيرانيين طلبوا منهم ألا يدخلوا صنعاء ، بناءً على تنسيق مع السعودية ، وعندما اندفع الحوثيون في اتجاه الجنوب ، لم يكتف الإيرانيون بالقول وإنما مارسوا أعمالا مضادة لدفع الحوثيين إلى إيقاف تمددهم ، وإذا كانت إيران هي أول الداعمين للحراك الجنوبي ( جناح البيض ) فهو الجناح الذي خرج منه عيدروس الزبيدي .

وهناك – ثالثا – ما قيل ويقال إن الموقف الأمريكي في هذه الحدود ، هو أداة للضغط على السعودية من أجل استنزاف جانب أكبر من أموالها ، وفي ظني إن تحقيق ذلك يمكن أن يكون أكثر فاعلية من خلال استخدام أدوات أخرى ، فلك أن تلاحظ أن الذين رحبوا بقرار ترامب توصيف أنصار الله كمنظمة إرهابية هم أنفسهم الذين رحبوا بقرار بايدن المناقض له ، فالترحيب في الحالتين ليس له علاقة بمضمون القرار وتبعاته ، وإنما بمصدر القرار ، والمصدر في النهاية هو الذي يقرر ويفرض .

أما في المستوى الثاني من التفسيرات الأكثر عمقا ، فإننا امام ثلاثة تفسيرات واضحة :

أولا : إن الحرب نفسها رغم كل ما تم قذفه في ساحتها ، لم تستطع أن يحقق نصرا إستراتيجيا ، بل على النقيض من ذلك ، تحوَّلت من انهيار إستراتيجي إلى انهيار أمني ثم انهيار اجتماعي واقتصادي ، ففي الجنوب موجات من ثورة الجياع والمهمشين ، وفي الغرب غضب وعصيان وانتفاضات ضد عمليات القتل والسلب

وفيما تبدو قمة المواجهات في (مارب ) التي كادت أن تتحوَّل إلى مدينة خاصة بالإخوان المسلمين ، فإن عملية تقشير تكتيكي تواصلت على قدم وساق ، للوصول إلى قلب (مارب ) من قبل الجيش واللجان الشعبية ، ومن المؤكد أن النجاح في الدخول إلى مدينة مارب سيعني فعليا انتهاء المعارك الكبرى ، والتقدم نحو شبوة وحضرموت اللتين ستعتبران في هذه الحالة في وضع أقرب إلى السقوط إستراتيجيا ، بينما سيزداد اشتعال المواجهات بين قوات ما يسمى بالشرعية وما يسمى بالمجلس الانتقالي تعبيرا عن تصادم المصالح التي تضيق رقعتها بين السعودية والإمارات .

ثانيا : إن قاعدة مسلحة في اليمن قد تمرست على أعمال القتال ، دفاعا وهجوما ، وتراكمت خبراتها وأسلحتها على امتداد 6 سنوات ، وقد أصبحت تشكل واحدة من أهم دوائر الخطر ، فالصواريخ في أيدي الحوثيين في أية مواجهة تطول إلى قلب موانئ إسرائيل قبل أن تطول بحر العرب وجانبا من المحيط الهندي ، إن تراكم خبرات القتال وإرادة القتال جنبا إلى جنب مع تراكم السلاح كما وكيفا ، هو بمثابة خطر داهم لم تتأخر إسرائيل في تصنيفه على أنه يشكل نصف دائرة ثانية من التهديدات المباشرة ، التي دخلت في دائرة الأمن الإسرائيلي ، بعد أن اتسع مفهومه إلى مستوى أكبر من تعبير الأمن ذاته .

ثالثا: كان اتساع الحيز الزمني والميداني للحرب على اليمن ، وقفز الإمارات والسعودية ومعهما منتوج هذه الحرب إلى القرن الأفريقي بتكوينه الهش ، وما ترتب على ذلك من تحالفات جديدة ، وتناقضات جديدة في تفاعلات بنيته بسلاسلها المتصلة ، أن تحوّل القرن الأفريقي ذاته خاصة امتداداته الإريترية والأثيوبية والسودانية ، إلى منطقة قابلة للاشتعال .

لقد دفعت السعودية والإمارات 2 ملياري دولار لإنجاز مصالحة بين أثيوبيا واريتريا حفاظا على قاعدتيهما الجويتين والبحريتين في ارتريا ، وعلى استثماراتهما ، سواء في سد النهضة أو في مشاريع زراعية أثيوبية ، ثم دخلت الإمارات إلى الصراع العرقي داخل أثيوبيا ، فقد استخدمت قاعدتها في ارتريا وطائرتها المسيرة لقصف جبهة التجراي

بل وامتد تأثيرها المدمر حتى السودان ، لخلق اضطراب كبير في شرقه ، بمشاركة وتحالف مكين مع ارتريا ، وإذا أضفت إلى ذلك الوضع في الصومال ، والوضع في جيبوتي التي أصبحت تضم 6 قواعد عسكرية لدول أجنبية ، فهناك قاعدة أمريكية وأخرى بريطانية ، وثالثة إيطالية ، ورابعة يابانية ، وخامسة صينية ، وسادسة فرنسية ، بينما يمكن إدراك مخاطر امتداد النار في هذه المنطقة من أمرين ، الأول أن المسافة بين القاعدة الأمريكية والقاعدة الصينية ، لا تزيد عن 7 أميال بحرية فقط ، والثاني أن هذه القواعد كلها لم تأتِ أساسا من أجل تأمين الملاحة في البحر الأحمر ، أو باب المندب فحسب ، وإنما بالدرجة الأولى لتأمين الوجود العسكري في المحيط الهندي ، وهو ما يعني أن الرقعة المفتوحة لامتداد النيران تطول مسرحا إستراتيجيا بالغ الاتساع .

نأتي إلى المستوى الثالث ، وهو الأكثر عمقا ، وأهميته تكمن في أنه يعطي مؤشرين هامين على توجه إدارة بايدن ، ليس بخصوص اليمن وإنما بخصوص الإقليم كله، وهما :

الأول : إن هناك إدراكا لدى الإدارة الأمريكية أن الوكلاء الأمنيين قد فشلوا في الوصول بالإستراتيجية إلى مداها المطلوب ، بل إنهم ساعدوا في تقوية وتثمين مضادات محلية لهذه الإستراتيجية ، حيث بدا أن التفاعلات الكبيرة تأخذ منحى عكسيا ، ولذلك فإن (الأصيل ) قرر أن يسترد المبادرة في يده المباشرة ، وهناك شواهد واضحة على ذلك فوق الأرض في سوريا وفي العراق سوف يأتي وقتها

غير أن ذلك لا يعني أن الوكلاء الذين فقدوا أدوارهم الرئيسية لن يتم استيعابهم حسب الحاجة في أدوار فرعية ، فالإمارات – مثلا – وبعد ما أصدرته الإدارة الأمريكية من توجه بخصوص اليمن ، تكفلت طائراتها قبل أيام بنقل الدفعة الثانية من العسكريين الإسرائيليين إلى جزيرة سقطرى لاستكمال إنشاء قاعدة التجسس الإسرائيلية .

الثاني : وهو الأكثر أهمية ، أن الإدارة الأمريكية الجديدة تريد إنجازا سريعا لأهدافها الإستراتيجية المباشرة ، لذلك فقد انتهت مع جرد الأوضاع القائمة في المنطقة إلى قرار إستراتيجي هو ( تركيز النيران )على أهداف رئيسية .

نعم، لقد دخلنا في مرحلة ( تركيز النيران )
البقية في الجزء السادس

كاتب صحفي مصري

You might also like
WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com