اليمن .. أمة التوحيد وأنصار الرسالة الإلهية عبر التاريخ
لم تكن اليمن في يوم من الأيام هامشًا في التاريخ الديني للإنسان، بل شكّلت إحدى البقاع التي تفاعلت مبكرًا مع سؤال الإيمان، ومع معنى التوحيد، ومع العلاقة بين الإنسان وخالقه، فاليمن، بما تحمله من عمق حضاري وإنساني، لم تُعرف فقط كمهدٍ للحضارات المادية، بل أيضًا كأرضٍ استقبلت القيم الروحية وتفاعلت معها بوعي ومسؤولية، إن تتبّع المسار الديني لليمنيين يكشف عن علاقة متجذّرة مع التوحيد الإلهي، علاقة لم تُبنَ على القطيعة أو الإكراه، بل على القناعة والتراكم المعرفي والأخلاقي، ومن هنا، فإن الحديث عن ارتباط اليمنيين بالرسالات السماوية قبل الإسلام وبعده، ليس حديثًا عاطفيًا أو انتقائيًا، بل قراءة في سياق تاريخي متكامل يوضح لماذا كانوا جديرين بحمل الرسالة الإلهية، ولماذا أثبتوا هذا الاستحقاق عمليًا في مراحل مفصلية من تاريخ الإسلام.
يمانيون / تقرير / طارق الحمامي
التوحيد في اليمن قبل الإسلام .. إرث روحي لا يُمكن تجاهله
قبل الإسلام، لم تكن اليمن أرضًا غارقة في الوثنية الصمّاء، بل كان التوحيد حاضرًا في بنيتها الدينية، وقد سجّل القرآن الكريم إحدى أبرز التحولات التوحيدية في التاريخ اليمني من خلال قصة ملكة سبأ، التي تمثّل نموذجًا لقيادة سياسية واجتماعية انتقلت من عبادة الشمس إلى الإيمان بالله الواحد بعد حوار عقلاني واعٍ، كما تتجلى قبل ذلك دعوة النبي إبراهيم عليه السلام في قوله تعالى : ﴿فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ﴾، في أول استجابة تاريخية تمثلت بقبيلة جرهم اليمنية، التي كانت أول من آوى نبي الله إسماعيل وذريته في وادي مكة، وأسهمت في أعظم خطوة تأسيسية لشعائر الله، وهي المعاونة في بناء الكعبة المشرفة مع إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام.
ويمثل هذا الحدث دلالة عميقة على ارتباط قبائل اليمن بجذور الرسالة الإلهية العالمية، حيث كان هذا الاحتضان جزءًا من تهيئة إلهية مبكرة لمسرح الرسالة الخاتمة، ولم يتوقف الدور اليمني عند هذا الحد، بل استمرت مراحله التاريخية شاهدة على التفاف القبائل اليمنية حول المشروع الإلهي، وترقبهم لبعثة النبي الخاتم محمد صلوات الله عليه وآله وسلم، وهو ما تؤكده الروايات التاريخية عن التبع اليماني الذي بعث قبيلتي الأوس والخزرج إلى يثرب للإقامة فيها انتظارًا لظهور النبي الخاتم ونصرته،
ويبرز هذا الامتداد بوصفه تخطيطًا إلهيًا تاريخيًا لدور القبائل اليمنية في حمل الرسالة والدفاع عنها، ليكونوا من الشهداء على الناس بنصرة المشروع الإلهي في مراحله المختلفة، وهو ما أشار إليه القرآن الكريم في قوله تعالى: ﴿أُولَٰئِكَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَٰؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ﴾، في إشارة إلى القوم الذين حملوا الرسالة بإيمان راسخ حين تنكر لها آخرون.
وتشكل أحداث هذه المرحلة شاهدًا تاريخيًا على تجدد انطلاقة المشروع القرآني من اليمن، وعلى خصوصية الشعب اليمني في التفافه حول قضايا الأمة، واستمراره في تبني خط الرسالة الإلهية تمسكًا بإرث الأجداد، وامتدادًا لدورٍ كُتب له أن يكون حاضرًا في مسيرة الإيمان منذ جذورها الأولى وحتى اليوم.
دخول اليمنيين في الإسلام .. إيمان عن قناعة لا عن إكراه
عندما وصل الإسلام إلى اليمن، جاء محمولًا على خطاب التوحيد والعدل والكرامة الإنسانية، وهي قيم لم تكن غريبة على الوعي اليمني، ولذلك، كان دخول اليمنيين في الإسلام دخولًا طوعيًا، قائمًا على الاقتناع لا القسر، وعلى الفهم لا الخضوع.
وقد عبّر النبي الأكرم محمد صلوات الله عليه وآله، عن هذه الخصوصية بوضوح حين منحهم وساماً عظيماً بوصفه لهم ، الإيمان يمان والحكمة يمانية، كسمتين بارزتين في أهل اليمن، وهذه الشهادة النبوية لا تُقرأ بوصفها مدحًا عاطفيًا، بل توصيفًا دقيقًا لطبيعة مجتمع قادر على استيعاب الدين الإسلامي بوصفه منظومة قيم وسلوك، لا مجرد طقوس.
لقد مثّل إسلام اليمنيين إضافة نوعية للمجتمع الإسلامي الناشئ، حيث أسهموا في ترسيخ البعد الأخلاقي والإنساني للإسلام، وساعدوا في نشره بروح المسؤولية لا بروح الغلبة.
اليمنيون في صدر الإسلام .. شراكة في بناء الأمة
في مرحلة التأسيس الأولى، لم يقف اليمنيون موقف المتفرّج، بل كانوا شركاء حقيقيين في بناء المجتمع الإسلامي، مع رسول الله صلوات الله عليه وآله، والإمام علي عليه السلام، شاركوا في ميادين العلم، والجهاد، والإدارة، وأسهموا في بناء الوعي الديني، وقد أظهرت هذه المشاركة أن اليمنيين لم يكتفوا باعتناق الإسلام كهوية، بل التزموا به كمشروع حضاري وأخلاقي. وهذا ما يؤكد أن جدارتهم بحمل الرسالة الإلهية لم تكن دعوى نظرية، بل ممارسة عملية تجلّت في سلوكهم ومواقفهم.
اليمن والإمام علي عليه السلام
تُعد علاقة اليمنيين بالإمام علي عليه السلام من أبرز الشواهد على عمق ارتباطهم بالرسالة المحمدية في بعدها القيمي. فعندما بعثه النبي صلوات الله عليه وآله، إلى اليمن، وجد مجتمعًا تفاعل معه بإيجابية، ودخل في الإسلام على يديه، لما لمسوه من علمه، وعدله، وأمانته.
هذا التفاعل مثل انسجامًا مع منهج يجمع بين التوحيد والعدل، وبين الإيمان والسلوك، وقد ظل هذا الارتباط حاضرًا في الوعي اليمني، بوصف الإمام علي إمتداد الرسول والرسالة ووصي الأمة ونموذجًا للإمام العادل، والعالم المسؤول.
مع أئمة أهل البيت عليهم السلام .. استمرار للنهج لا انقطاع عنه
امتد هذا الوعي مع أئمة أهل البيت عليهم السلام، حيث وجد اليمنيون في مدرستهم امتدادًا نقيًا لرسالة النبي صلوات الله عليه وآله، يحفظ جوهر التوحيد، ويصون العدالة، ويرفض الانحراف عن القيم السماوية.
لقد تميّز هذا الارتباط بأنه ارتباط فكري وأخلاقي، لا قائمًا على العصبية أو الفكرة العمياء، بل على الالتزام بالمنهج القرآني، وقيم العدل والمساواة، والمسؤولية الاجتماعية، ومن هنا، حافظ المجتمع اليمني على هوية إيمانية متوازنة، تجمع بين القيم والأصالة.