الاستباحة الكبرى .. كيف يقود المشروع الصهيوأمريكي حرباً شاملة على الأمة أرضاً وهوية ً وقيماً
في غرف التحقيق المظلمة التي لا يعرف موقعها إلا قلة، وفي المعابر التي تُفتش فيها النساء تحت سطوة السلاح، وفي السجون التي تُنتهك فيها أجساد الرجال لتكسير روحهم، وفي المستشفيات المقصوفة حيث تولد النساء في الممرّات، تتكرر القصة ذاتها في الشرق الأوسط عبر عشرات السنين، قصص ليست روايات سياسية ولا شعارات عاطفية، بل حقائق موثقة في أرشيف الأمم المتحدة، وفي تقارير المنظمات الحقوقية الدولية،
يمانيون / تقرير / طارق الحمامي
منذ بداية العقد الأخير تحديداً ، شهدت منطقة الشرق الأوسط تحولات غير مسبوقة في السياسة الخارجية والتحالفات الإقليمية، لعل أبرزها توقيع اتفاقيات أبراهام بين كيان العدو الإسرائيلي وبعض دول الخليج عام 2020، هذه الاتفاقيات لم تقتصر على الجانب السياسي أو الاقتصادي، بل امتدت آثارها لتطال الأبعاد الاجتماعية والثقافية، مؤثرة على القيم الأسرية والدينية وممارسات الشباب والمجتمعات الحضرية.
تشير دراسات أكاديمية إلى أن هذه التحولات تتزامن مع انفتاح اقتصادي وثقافي تحت غطاء الحداثة والعولمة، إلا أن أثرها على البنية القيمية التقليدية مثار جدل كبير، خصوصًا في السعودية والإمارات، حيث بدأت ملامح تغييرات عميقة في العلاقات الأسرية، القيم الاجتماعية، ونمط الحياة اليومي.
النفوذ الأمريكي _ الإسرائيلي في الشرق الأوسط
تؤكد الدراسات الاستراتيجية أن مشروع الاستباحة الأمريكي _ الإسرائيلي يسعى إلى إعادة ترتيب أولويات القوى الإقليمية لصالح المصالح الغربية والإسرائيلية، عبر تحالفات سياسية واقتصادية وثقافية مع دول الخليج، وتوظيف سياسات مباشرة وغير مباشرة لتشكيل بيئة مواتية لمصالحهم.
وفق تقرير لمركز دراسات الدوحة، تعتبر اتفاقيات أبراهام وسيلة لتثبيت نفوذ إسرائيل اقتصاديًا وسياسيًا في المنطقة، مع فتح الباب أمام تكنولوجيا، استثمارات، ومشاريع مشتركة، البحث في تحولات السلطة والسياسة في السعودية والإمارات، يربط بين النموذج الاقتصادي الجديد في الخليج، الانفتاح على السوق العالمي، والضغط على المؤسسات التقليدية، وبين تعزيز الشراكة مع إسرائيل كجزء من المشروع الإقليمي.
السعودية والإمارات .. أدوات مشروع الاستباحة الصهيوأمريكي 
الدول الخليجية التي دخلت في اتفاقيات التطبيع أصبحت أدوات محلية لتطبيق السياسات الاستراتيجية، فالإمارات تقدم نفسها كنموذج حداثي، وتعمل على استقطاب الاستثمارات، وتعزز تواجدها داخل مشروع الاستباحة الصهيوأمريكي من بوابة الانفتاح على التكنولوجيا والثقافة الغربية.
أما السعودية، فمن بوابة تحديث الاقتصاد، وبرامج رؤية 2030، عملت على تعزيز السياحة والترفيه، مع تقييد الحريات الدينية والسياسية في الوقت
نفسه.
تحليلات أكاديمية تصف هذا التوازن بأنه سلطوية حداثية، وتوجيه مسار النمو الاقتصادي والثقافي على حساب حريات المجتمع التقليدية، وبما يخدم مشروع العدو الصهيوأمريكي .
دراسة ميدانية في السعودية بينت أن 88% من الأسر تعتبر أن وسائل التواصل الاجتماعي أدخلت قيمًا دخيلة على المجتمع التقليدي، هذه التحولات تؤثر على الأدوار الأسرية، وطرق التربية، وأولويات الجيل الجديد في المجتمع.
كما أظهرت دراسة عن المجتمع الإماراتي أن التغيرات الثقافية والاجتماعية، المرتبطة بالانفتاح، أدت إلى تغيّر في أداء الأسرة وارتفاع مستوى الانحراف الاجتماعي بين الشباب .
ورغم الترويج للانفتاح على أنه حداثة وتنمية، تشير تقارير إلى تضييق الحريات، فالسعودية والإمارات تفرضان قيودًا على الإعلام والمحتوى الرقمي، وتراقبان خطاب العلماء والمثقفين، بما يؤدي إلى إعادة هيكلة المؤسسات التعليمية والثقافية وفق أجندة الدولة السياسية لكي لا تتأثر العلاقة المعلنة مع العدو الصهيوأمريكي .
هذا التوازن بين الحداثة الاقتصادية والثقافية، من جهة، والسيطرة السياسية والاجتماعية من جهة أخرى، يشير إلى مرحلة انتقالية للمجتمع، حيث تنهار القيم الأصيلة مع القيم الحديثة المفروضة من العدو.
وتظهر الدراسات الميدانية أن التغيرات أصبحت تحولات خطيرة أثرت على الواقع القيمي للجيل الجديد الذي انساق إلى التجاوب مع الانفتاح ومظاهر الإنحلال الاجتماعي، واعتماد التكنولوجيا التي تمكن العدو من اختراقها متى شاء ووقت ما يشاء .
فلسطين .. تحت الاستهداف الممنهج 
العنف الجنسي والانتهاكات الجسدية، حقيقة أممية مثبتة، ففي تقريرها الصادر في 13 مارس 2025، والذي شرحت فيه لجنة التحقيق الدولية التابعة للأمم المتحدة، بوضوح لا يقبل التأويل، أن العنف الجنسي استُخدم بشكل ممنهج ومتعمد ضد نساء وفتيات فلسطينيات، من التعري القسري، والتهديد بالاغتصاب، والتحرش أثناء الاعتقال، وملامسة الأجزاء الحساسة للمعتقلين، كانت من الأساليب الاعتيادية لبعض وحدات العدو الإسرائيلي.
حيث وصف التقرير إن بعض هذه الأفعال ترقى إلى جرائم إبادة مع ثبوت النية باستهداف القدرة الإنجابية للمجتمع.
هذا ليس تحليلاً صحفياً، بل وثيقة رسمية صادرة عن أعلى هيئة حقوقية أممية.
منظمة الصحة العالمية وOCHA وثقتا أن 80% من غرف الولادة في غزة توقفت عن العمل خلال عامي 2024 _ 2025، وأن آلاف النساء يلدن بدون تعقيم، بدون مسكنات، وبدون إشراف طبي، وأن معدل وفيات الأمهات تضاعف 3 مرات، في مؤشر واضح على تعمد العدو تدمير القدرة الإنجابية، وهذا النوع من التدمير لا يستهدف بنية تحتية فحسب، بل أحد أهم ركائز استمرار المجتمع نفسه، التكاثر والإنجاب.
كما وثقت منظمة العفو الدولية ولجان حقوقية محلية ودولية، إقدام العدو الصهيوني على إجبار الرجال الفلسطينيين على خلع ملابسهم في أماكن الاعتقال، وتصوير بعض حالات الإذلال، وإيذاء المعتقلين الذين حُرموا من الخصوصية لأشهر بل وسنوات.
هذه الوقائع لا تُقدَّم كتحليل، إنها حقائق مثبتة بشهادات، صور، ووثائق رسمية.
العراق .. أبو غريب وتدوين الإذلال بشكل رسمي 
الصور التي لا تُنسى، والوثائق التي أكدت الحقيقة، ففي العام 2004 هزّت صور سجن أبو غريب العالم، رجال عراة مكدسون فوق بعضهم، قيود على الأعضاء التناسلية، مسدسات موجّهة نحوهم، جنود يضحكون ويشيرون إليهم، لكن بعد الصدمة الأولى، جاءت الحقيقة الأهم، تقرير مجلس الشيوخ الأمريكي عام 2008 أثبت أن التعذيب الجنسي كان جزءًا من تقنيات الاستجواب المعتمدة، وأن التعري القسري سياسة ممنهجة وليست تصرفات فردية، أكثر من 1800 صورة التقطت داخل الزنازين وثّقت الإذلال المتكرر، هذه اعترافات مؤسسات أمريكية رسمية.
كان الأثر النفسي الذي سعى اليه العدو هو كسر المجتمع وليس المعتقلين فقط، حيث أثبتت دراسة أن أكثر من 42% منهم
فقدوا القدرة على التواصل الأسري، بينما 30% شهدوا تفككًا أسريًا مباشرًا بعد الإفراج عنهم.
هذا يعني أن الاستهداف لم يكن فرديًا، بل ضربًا متعمّدًا للأعمدة النفسية والاجتماعية للمجتمع العراقي.
لماذا تتكرر هذه الأساليب في الشرق الأوسط تحديدًا؟
يؤكد محللون أن مجتمعات الشرق الأوسط ، ترتبط فيها مفاهيم الشرف بالأسرة والجسد، وتلعب فيها الهيبة الاجتماعية دورًا أساسيًا، كما تُعتبر فيها الإهانة مسألة جماعية لا فردية، وهي قيم مرتبطة بانتماء دول الشرق الأوسط للإسلام الذي يشكل بأصالته خطر على العدو الصهيوأمريكي في تنفيذ مشروعه ، كما أن هناك بعد استراتيجي هام يتمثل في أن الشرق الأوسط هو مركز الطاقة والثروات، وموقع استراتيجي بين القارات، لذلك اعتمد العدو الصهيوأمريكي على تكثيف الضغط العسكري المباشر، والضغط النفسي، والتفكيك الاجتماعي، وشن حرب على كافة المستويات حتى على البنية الصحية والإنجابية، وكلها أدوات تترك أثرها لعقود.
السيد القائد يؤكد .. هذا هو المعنى الحقيقي لمشروع الاستباحة
واحدة من أبرز الشواهد على خطورة مشروع الاستباحة جاءت في خطاب السيد القائد عبد الملك بدر الدين الحوثي (يحفظه الله) بمناسبة بداية السنة الهجرية وذكرى 14 أكتوبر 2015، حيث قدّم قراءة تاريخية وسياسية شاملة لمشروع الاستباحة في المنطقة، حيث أكد السيد القائد أن ما يجري اليوم من احتلال وغزو في اليمن لا يمثل حالة استثنائية، بل هو امتداد مباشر لفعل الاستعمار البريطاني والأمريكي الذي مزّق المنطقة إلى دويلات، وأسّس الكيان الإسرائيلي، وخلق أنظمة وظيفية مثل النظام السعودي لتعزيز الهيمنة الغربية _ الإسرائيلية.
وأشار السيد القائد إلى أن الاستباحة لا تقتصر على السيطرة العسكرية، بل تشمل استباحة الأرض، والموارد، والقرار السياسي، والحرية، والكرامة الإنسانية، بما يعكس منظومة شاملة للهيمنة. ومن هذا المنظور، يُنظر إلى العدوان السعودي–الأمريكي في اليمن، بما في ذلك القصف الجماعي للمدن والمساجد والأسواق والمناطق المدنية، على أنه تجسيد عملي لمفهوم الاستباحة، حيث يُستباح الدم، ويُستباح العرض، ويُستباح القرار والمستقبل والحاضر، يقول السيد القائد : ((هذا المستوى الفضيع من الاستهداف والاستعباد للناس قتلا جماعيا في الأسواق والمساجد والأعراس والمناسبات والمدن والقرى، هذه المجازر المروعة والوحشية، هذه الفضائع الرهيبة جدا تعني الاستباحة، هذا هو معنى الغزو الأجنبي، هذا هو معنى الاحتلال، يعني الاستباحة لدمك الاستباحة لأرضك الاستباحة لعرضك، يعني سلبك حريتك سلبك قرارك، سلبك مستقبلك سلبك حاضرك، هذا هو معنى الاحتلال، يعني استعبادك وإذلالك وقهرك والتحكم بك)) ، كما يربط السيد القائد بين الاستباحة التاريخية والمعاصرة، موضحًا دور أدوات العدو الصهيوأمريكي في هذا المشروع، مع التأكيد على أن المقاومة ضد هذا العدوان ليست فقط واجبًا دينيًا، بل مسؤولية إنسانية وأخلاقية لمواجهة الاستعباد والإذلال وسلب الحرية، هذا التصور يعزز تحليلنا للتحولات في المنطقة ويضع اليمن كنموذج اختبار عملي لمواجهة مشروع الاستباحة، ويكشف كيف أن سياسات العدو الصهيوأمريكي تستخدم أدوات في المنطقة مثل السعودية والإمارات لتطبيق المشروع على الأرض، بما يتجاوز السياسة إلى البنية المجتمعية والقيمية، مؤكدًا أن المشروع لا يهدد دولة بعينها فقط، بل يمتد تأثيره ليشمل الهوية والقيم والحرية في كل الدول العربية، خصوصًا في الخليج .
الاستباحة العسكرية للشرق الأوسط .. الأبعاد والدلالات
لم يقتصر مشروع الاستباحة الأمريكي _ الإسرائيلي على التغلغل الاجتماعي والنفوذ السياسي والاقتصادي، بل اتخذ البُعد العسكري أداة رئيسية لتحقيق أهدافه في الشرق الأوسط، هذا البُعد يظهر من خلال التدخلات المباشرة وغير المباشرة في إشعال الحروب في المنطقة، واستخدام القوة الجوية والبرية والبحرية لدعم أدواتها مثل السعودية والإمارات ، وتمكين العدو الإسرائيلي من التوسع العسكري والسيطرة الاستراتيجية على المنطقة.
كما أن الاستباحة العسكرية تشمل الدمار الممنهج للبنية التحتية، القتل الجماعي، النزوح القسري، وتدمير المؤسسات التعليمية والصحية، ما يترجم عمليًا إلى استباحة الإنسان والمجتمع والدولة.
منذ بدء العدوان الأمريكي _ السعودي على اليمن عام 2015، تشير التقارير إلى أن عدد الشهداء والجرحى المدنيين جراء العدوان منذ 26 مارس 2015 حتى 26 أبريل 2025 بلغ 59 ألفًا و346 مواطناً، بينهم 24 ألفاً و126 شهيداً، وذلك في إحصائية غير نهائية، ومن بين الشهداء أربعة آلاف و176 طفلاً، وثلاثة آلاف و154 امرأة، وجُرح أربعة آلاف و175 طفلًا، وثلاثة آلاف و154 امرأة جراء عمليات تحالف العدوان خلال السنوات العشر الماضية، ومن بين الضحايا 69 طبيباً ومسعفاً، بينهم 66 شهيداً وثلاثة جرحى، ولفتت التقارير إلى أن مليوناً و483 ألفًا و23 مدنياً قضوا نتيجة العدوان بطريقة غير مباشرة جراء الحصار والعمليات العسكرية، وذلك لأسباب متعددة من الأمراض المزمنة، وسوء التغذية، وتفشي الأمراض، والسموم الناتجة عن المواد الكيميائية، وأمراض أخرى.
وفي فلسطين تهديد دائم للمقدسات والهوية، والكيان الإسرائيلي يمارس استباحة عسكرية مستمرة تشمل القصف الجوي للمدن الفلسطينية، والحصار والتهجير القسري للسكان المدنيين، واقتحام المسجد الأقصى واستهداف الرموز الدينية.
تُظهر هذه الممارسات أن الاستباحة العسكرية مرتبطة بالاستهداف الرمزي والهوية الوطنية والدينية، وليس مجرد السيطرة الجغرافية. 

التدخلات العسكرية في لبنان والعراق وسوريا وليبيا واليمن ، ودعم الولايات المتحدة وإسرائيل للأسلحة والتكنولوجيا العسكرية للأنظمة المطبعة وفي مقدمتها السعودية والإمارات، لتطبيق سياسات الهيمنة، تعتبر امتدادًا مباشرًا لمشروع الاستباحة.
يحمل هذا المستوى من الاستباحة دلالات خطيرة تتمثل في تأكيد الهيمنة الأمريكية _ الإسرائيلية على المنطقة عبر الأدوات العسكرية والسياسية، ومن خلال استخدام أساليب متنوعة البشاعة في القتل والتحكم بمصير شعوب المنطقة، وهي بالنسبة للعدو ركيزة أساسية في المشروع على المستوى الإقليمي، وهي ذات تأثير مباشر على السياسة والاقتصاد والأمن، والبنية الاجتماعية والقيمية، والهوية الثقافية والدينية للشعوب العربية.
ختاماً
مشروع الاستباحة الذي ينفذه العدو الصهيوأمريكي، ليس مجرد حرب أو تدخل سياسي، بل عملية ممنهجة طويلة الأمد تستهدف الأرض، الإنسان، القيم، والهوية، والتداعيات واضحة، دول مفككة، ومجتمعات ضعيفة، وأجيال معرضة لتبني قيم مستوردة، وانتهاك دائم للحقوق الإنسانية الأساسية، ويظل الطريق إلى حماية الهوية والقيم الوطنية مرهونًا بوعي المجتمع، والمقاومة المدنية والسياسية، وفهم طبيعة المشروع الشامل الذي يهدد الاستقرار والكرامة في المنطقة بأكملها، من خلال العودة الصادقة إلى الله تعالى والقرآن وتولي أولياء الله، هذه العودة هي الأساس الذي يمكن من خلاله حماية الأرض والعرض والهوية والحاضر والمستقبل من الهيمنة والاستلاب وتحقيق صمود حقيقي للأمة في مواجهة التحديات المتعددة .