مناسك العزة والكرامة في غزة
يمانيون / مقال / البتول المحطوري
في غزة حيث الكرامة والعزة من تحرس المدينة، لا تؤدَ طقوس العيش الهانئ كما تؤدِ في باقي مدن الأرض؛ بل تُقامُ مناسك التضحية والفداء كما تُقام الصلاة في العراء، على أرض لا تنحني، وشعب لا ينكسر، في غزة الحياة ليست كلمة عابرة؛ بل عبادة.
مع إطلالة فجرِ كل يوم، يستيقظ أهل غزة على صوت الأمل وهو يصارع الانكسار، يتوضون بالحنين، ويعقدون نية الصبر كما يعقد المؤمن نية الحج، هنا الصبر ليس خيارًا، بل ضرورة كالطعام والماء، والهواء.
يطوفون حول منازلهم المدمرة والحنين لها يُخالجهم، كما يطوف الحجاج حول بيت الله الحرام، كل حجر يحمل ذاكرة، وكل زقاق يشهد بأن الطواف هنا خيرٌ من كل مكان، يمرون على الركام كما يمرُ الحلمُ على الجراح، ليقرأوا عليها الفاتحة ويرددون، “ستعودين كما كنتي شامخة ياعزيزة البلاد” .
تسعى سيارات الاسعاف هنا وهناك بين المدارس، والخيام، والبيوت المهدمة، كما سعت هاجر بين الصفا والمروة، باحثون عن الأجساد المتبقية والتي تُناضل من أجل الحياة لتنقذها، كل أم هناك هي هاجر ، وكل طفل هو إسماعيل جديد.
لايسمع صوت زمزم؛ بل هدير الطائرات والقذائف والرصاص، ومع كل هذا لا يتوقف السعي، فالسعي أمل، والأمل مقاومة.
في كل محطة ألم، يقف الغزي على عربته المتهالكة والتي أصبحت منزله المتبقي ، ليرفع كفية إلى السماء و التي لم تخنه قط، ويقول: “ربنا اُخرجنا من بيوتنا بغير حق، فارزقنا صباحا يُتوّج بالنصر، وأرضًا تُحيطها الثمرات من كل حدب”، لتتحول الأرض في عرفات غزة إلى ساحة عيش مرة أخرى، يتطهر فيها القلب من الجراح، وتغتسل الروح من الغبار.
لا جمرات هناك، بل كلمات عالقةً في صدورهم يرمون بها في وجه العالم المتخاذل والجبان، يرجمون الانكسار، والحصار، واللامبالاة، والغربة، والخوف، ويرددون خلف حجارتهم:” لن نُساوم في شبر من أرضنا حتى ولو نذر في الهواء؛ فالأرض أرضنا والكيان سيُزال مهما طال في الإجرام” وتمضي تلك الحجارة وهي ترسم للعالم أجمع بأن هناك شعبٌ لايزال حي من بين الأنقاض، وهو مؤمن بأن الغد سيولد من رحم المُحال.
في غزة لايعلن العيد بالأهلة، بل بإشراقة وجه أم وجدت كسرت خبزٍ لأطفالها الجياع، و لايذبح الهدي، بل يذبح الانتظار، وتوزع الأمنيات في أكياسٍ صغيرة من الحلوى لما تبقى من أطفال أحياء، كل بيت يقيم العيد بطريقته الخاصة، وكل جدار مائل يُزين بالأحلام والأمنيات.
هنا الحج أمل لايتوقف، وصلاة لا تنقطع بانقطاع الكهرباء، فهم يحفظون مناسك العزة والكرامة كما يحفظون الفاتحة والإخلاص ، ويُشيدونها في الأزقة، والأسواق، وعلى أطلال البيوت، وبين كتب المدارس، لا ينسون ولا يملون، ولا يتراجعون، لأن غزة ببساطة؛ لا تؤمن بالانكسار.